د.فهد حسين

من قرأ للباحث البروفيسور عبدالفتاح كيليطو أيا من كتبه لا شك في أنه غاص في أعماق الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها، وعبر قراءة مجموعة من أعماله تصل إلى نتيجة مهمة مفادها أن كيليطو باحث قادر على استنطاق النصوص القديمة بمناهج حديثة مازجا بين التحليل والتأويل، وبين المتعة التي يتلقاها القارئ في أثناء قراءة أي عمله له، وقد أكد ذلك عبدالكبير الخطيبي حين قدم لكتابه المعنون بــ الأدب والغرابة فقال: "عندما يحدثنا كيليطو عن الحريري أو عن الجرجاني أو عن ألف ليلة وليلة، فإنه يسعى بالتأكيد إلى تحليل بنية المقامة أو بنية النحو العربي أو بنية الحكاية العجيبة، إلا أنه إضافة إلى ذلك يقدم لنا متعة مزدوجة: متعة هؤلاء الكتاب، ومتعة قراءته هو بصفته ناقدا أدبيا. إنها متعة يقظة وماكرة، إنها الابتسامة المقلقة لهذا المحلل ". ص8

والمعروف أن حكايات ألف ليلة وليلة دخلت العالم العربي وباتت في خزينة الحضارة العربية وثقافتها الحديثة على يد أنطوان جالان في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وهو الأمر المؤلم والمؤسف أن تذهب بعض ذخائر الحضارة العربية للغرب؛ لأننا لم نهتم بها ولم نعرها أي اهتمام حضاري أو ثقافي أو معرفي، لم تكن في غرف الدرس، ولا على مشرحة النقد، بمعنى أن كتاب الليالي لم يكن ذا بال عند العرب أو في الثقافة العربية إلا متأخرا، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبالأخص حينما بدأ الغرب في ترجمته وقراءته ودراسته بوصفـه عملا فنيا وإبداعيا، إذ كان وقعه كبيرا في أوروبا، ومن هنا بدأ الاهتمام بالكتاب والحرص على طباعته وقراءته، ودراسته في الثقافة العربية.

أسئلة لا بد منها

أشار الباحث إلى مجموعة من الأسئلة نتيجة لقراءة الحكايات، مثل: هل أحد منا في العالم العربي قرأ كتاب حكايات ألف ليلة وليلة كلها؟ أم قرأ منها حكاية هنا وحكاية هناك؟ أم لم يقرأ شيئا، وإنما سمع بعض القصص؟ وهل قراءتها ذات جدوى أم لا فائدة منها؟ فهناك قراء مختلفون ومتباينون: قارئ يبحث في الحكايات عما هو غريب وعجائبي بغية التسلية، وقارئ يلج في الحكايات بهدف التسلية وقتل الفراغ، وقارئ ثالث يبحث عما يحتاجه في حياته من عبر وقيم ومثل، وقارئ رابع ينظر للحكايات بوصفها تراثا ثقافيا لا بد من تخزينه في الذاكرة الثقافية، وتوظيفه بين الحين والآخر، وقارئ خامس يسعى إلى وضع الحكايات في المقارنة بينها وبين عصره، وفي سياق التجربة والخبرة، ولكن حينما نقرأ الحكايات هل نحن قادرون على تحرير الحكاية من السجل الشفاهي إلى السجل الكتابي؟ وهنا يحضر القارئ النموذجي الذي لا يرضى بالأحكام الجاهزة، بل يسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة بين النص وفهم واستيعاب ما يقوله النص، فالقارئ أما أن يكون متوجها بالفهم نحو النص من خلال اللغة، ومحاولة فهم القصدية بحساسية مرهفة كما نرى في تأويل كيليطو للحكايات، أو الاتجاه نحو النص عبر الولوج إلى الدلالات النصية الكامنة في متاهات الكتابة، وداخل الفجوات التي يحاول القارئ اصطيادها بمعول التأويل، وهي عملية ثابتة قام بها الباحث.

ولكن أيا كانت الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا، فإنه يمكن أن تكون لهذه الحكايات أو لغيرها من كتب التراث الإنساني السردي عامة، والعربي على وجه الخصوص إسهامات مهمة في فهم الحياة والمجتمع والإنسان آنذاك المحاط بظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية معينة فرضت على المجتمع أن يكون في حالة ما، وكل الحكايات التي جاءتنا كما يشير عبدالسلام بنعبدالعال، في كتاب الأدب والميتافيزيقا – دراسات في أعمال عبدالفتاح كيليطو هي: " حكايات شرطها الأساس الانتقال بين فضاءين: فضاء المألوف، وفضاء الغريب ".

لِم كان شهريار يقتل النساء؟

وقبل الولوج إلى عوالم هذه الحكايات قد تتبادر لنا حالة من الدهشة أو الاستغراب تجاه سلوك الملك شهريار، وما يقوم به من عمليات القتل، وفي هذا الصدد هناك حكاية في التراث الإنساني وفي التاريخ تقول كما جاء في كتاب العين والإبرة: هناك ملكان أخوان، هما: الملك شاه زمان، والملك شهريار، والاثنان متزوجان، وتحدث لكليهما حادثة، سببها الزوجة، فالملك شاه زمان يصدم حين يباغت زوجته ليراها في حضن عبد من العبيد في القصر، فما تمالك نفسه فقتل العشيقين معا، أما الملك شهريار فقد رأى زوجته في وكر الدعارة بصحبة عشرين جارية وعشرين عبدا، مما جعله يقتل زوجته ويعاقب كل النساء من خلال الزواج بهن ليلا، ليقوم بقتلهن صباحا، فيتخذ شهريار قراره الغريب هذا، والشنيع، القاضي بـأن يقوم كل صباح بضرب عنق المرأة التي يكون قد تزوجها ليلا، حتى قيل أنه قتل خلال ثلاث سنوات ما يربو على ألف امرأة، ص12 – 14، والنساء اللائي كن زوجات له يتم اختيارهن من قبل وزيره، حتى وقع في الأخير على ابنته لتكون ضحية هذه العقدة.

وهذه الحكاية تشبه حكاية في الأساطير كما يرى عالم الأنثروبولوجيا روبير لروي الذي يقول: إن حكاية الملكين شاه زمان وشهريار مثـل حكاية الهنود الكرو، والهنود الهوبي، حيث يقوم الزوج الهندي المنتمي إلى هنود الكرو بجذع أنف زوجته الخائنة، وينتهي أمر علاقتهما الزوجية، أما الزوج الهندي من هنـود الهوبي، فيقوم بأداء الصـلاة طالبا من الآلهة أن توقف الأمطار لكي يحدث الجفاف ثم المجاعة ثم ينقرض النـوع البشري.

هناك حكاية يذكرها هيرودوت وهي لملك مصر " إذ أصيب هذا الملـك بالعمى، وقد أخبره أحد العرافة بأنه قد يستعيد بصره إذا ما غسل عينيه ببول امرأة لم يسبق لها الارتباط برجل آخر غير زوجها– العين والإبرة ص14، ولكن الذي حدث أن الملك بدأ التجربة من زوجته فلم يأت بنتيجة فعرف أن زوجته خانته، ثم بدأ بعد ذلك مع نساء أخريات في المدينة، فكلما جاءت امرأة يكون حالها كحال زوجته، حتى حصل في النهاية على الشفاء وعودة البصر إليه من خلال امرأة واحدة فعرف أنها محصنة نفسها فتزوجها، أما بقية النساء فكان جزاؤهن القتل.

وبالعودة إلى شهريار فإنه بعد العدد الكبير من النساء اللائي ذهبن ضحية عقدة تأصلت في تكوينه النفسي والاجتماعي، ونتيجة أهواء وأمراض كانت مخزنة في جسده وفي عقله ووجدانه، وهذا يعني أنه لم يتوقف عن فعله المشين، ومعالجة حالته النفسية، فستنتهي النساء من مملكته نهائيا، إلا أن شهرزاد غيرت مجرى الحياة، وتاريخ شهريار بعد الزواج منه، لكن الوزير وقع بين خوفين: خوف من القبول، وخوف من الرفض؛ لأنه يعرف النتيجة ومصير ابنته في الحالين، ولكن شهرزاد وافقت تكون فداء العذارى، وبراءتهن، وطهرهن، وتسعى لتقويض سلطة الرجل، والمملكة الذكورية في الحياة والواقع والمجتمع القائمة على البطش والغطرسة وأحادية الرأي والقرار.

وبمعنى آخر كان حضور شهرزاد في حياة شهريار، هو حضور الثنائيات والتقاطبات، إذ تشير الحكايات أن الزواج قد تم، والحكايات رويت بعد ما اتفقت مع أختها دنيا زاد أن تطلبها في ليلة العرس الأولى، ويشير كتاب ألف ليلة وليلة قائلا: " وكانت أن أوصت أختها الصغيـرة دنيا زاد قائلة لهـا: إذا توجهت عند الملك أرسلت بطلبك، فإذا جئت قولي: يا أختي حدثيني حديثا نقطع به الليل، وأنا أحدثك حديثا يكون فيه إن شاء الله الخلاص، ص16، وبهذا تتوالى الحكايات منذ الليلة الأولى، فعاشت شهرزاد عمرها دون قتل بعد ما جعلت حكاياتها مرآة لشهريار ينظر فيها لشخصه وسلوكه من أجل " التغلب على عزلته، وأن يكتسب رؤية جديدة للأشياء، ويتخلى عن حقده ". العين والإبرة، ص145.

ولولا تلك الإمكانات والمقومات التي تملكها شهرزاد وتتمتع بها في السرد وتمثل الحكاية التي منحتها وقتا أطول، وكأنها بهذه الإمكانات تهرب بمصيرها الذي تراه محتوما في أية لحظة، أو أي صباح، وقد نجحت في أن تكون طبيبة لشهريار، تعالجه من مرضه، وتستمر حياتهما الزوجية، فينجبان ثلاثة أبناء، و شهرزاد ليس لديها ما تسرده وتقوله، بقدر ما تلمكه من قدرات ومعرفة في طريقة رواية الحكاية لجعل المتلقي ينتظر بشغف لما سيأتي من حديث، ولهذا كانت تتمتع بقدرة فائقة على سرد الحكاية عبر التفنن اللغوي وحضور الدهشة، والانتظار، ومهارات لفت الانتباه وجذب الإنصات، والقدرة على توظيف تقنية سردية في الحكاية، وهي الغرائبية. " فكانت شهرزاد تحرص أن تدرج حكاياتها ضمن الخارق، إذ لا مناص من أن تكـون الحكاية عجيبة وغريبـة، أن تقديم الحكايـة باعتبارهـا مدهشـة ومذهلة " العين والإبرة ص15-16، وجعل المتلقي في حالة توهج وانتظار قلق، كما أنها كانت تتمتع بجمال الشكل والروح، وهذا ما حصل إلى شهريار فعلا، فمنذ الليلة الأولى بعد أن أدركهم الصباح داخلت في نفس شهريار رغبة الانتظار ومعرفة المزيد، " فقالت لها أختها: ما أطيب حديثك وألطفه وأعذبه، فقالت لها: وأين هذا مما سأحدثكم به الليلة المقبلة إن عشت وأبقاني الملك، فقال الملك في نفسه: والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها "كتاب ألف ليلة وليلة ص18. وهذا الذي قامت به شهرزاد، وسكوتها الذي يوحي بأن هناك كلاما مهما سيقال بعد فترة الانقطاع والتوقف.