خالد فياض
المستشار السياسي لمعهد البحرين للتنمية السياسية
في الكلمة السامية لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الخامس؛ أكد جلالته على أهمية الدولة المدنية الحديثة، جاعلًا منها محور كلمته السامية التي احتوت على العديد من القيم والمبادئ التي تتصل برغبة جلالته لإقامة تلك الدولة حيث قال:
"نتطلع إلى المستقبل، بتفاؤل كبير، ونحن نقطع أشواط التقدم الحضاري في بناء الدولة المدنية الحديثة؛ المواكبة لحركة التقدم العلمي والتقني انسجاما مع وتيرة التنمية العالمية"
وتعرف الدولة المدنية بأنها الدولة التي تستمد شرعيتها من المجتمع أو عبر نوابه وممثليه، وتكفل الحقوق والحريات وتحترم التعددية، وتعمل على تجسيد سيادة القانون وتحقق المواطنة المتساوية.
وتكمن أهمية الحديث عن الدولة المدنية الحديثة، والتي تناولها جلالة الملك في كلمته السامية في كونها تمثل أداة لقياس مدى تحقق الدولة المؤسسية بمقوماتها التشريعية والحقوقية في الواقع العملي بصورة تتسم بالديمومة والثبات بمعنى فصل السلطات عن القائمين عليها، وهو ما يطلق عليه عملية المأسسة، وفي هذا السياق ينبغي التفريق بين مفهومين؛ الأول هو المؤسسة حيث تعني ذلك الكيان الذي يقوم على تنظيم غالبية نشاطات أعضائه وفقًا لنموذج تنظيمي كفء؛ يهدف إلى حل المشكلات الأساسية للمجتمع، وتلبية حاجات المجتمع، وتحقيق أهدافه في مجال محدد من المجالات، أما المفهوم الثاني فهو المأسسة، والتي تعني فصل ميدان السلطة العامة عن ميدان العلاقات الاجتماعية الخاصة، وإدارة المؤسسات وفقا لمعايير تحدد الحقوق والواجبات بدقة، وتفرض على الأفراد اختياريًا أو إجباريًا ، وهذه المعايير ليست معايير ذاتية أو فردية؛ بل هي معايير موضوعية تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، وتمثل المأسسة معيارًا لحداثة وتطور تلك المجتمعات.
وقد أشار جلالته في كلمته السامية إلى مجموعة من السمات والخصائص رأى أنها تُشكّل ضمانات أساسية لقيام تلك الدولة المدنية الحديثة؛ كان أهمها مبدأ الفصل بين السلطات؛ حيث أكد جلالته على ضرورة وجود " المزيد من التنسيق والتعاون بين السلطات، وأن تتحمل كل سلطة مسؤوليتها المناطة بها دستوريًا، باستقلالية تامة" وهو ما يعني منع التداخل في المهام والاختصاصات ليسهل التنفيذ وتحدد المسؤوليات في نطاق كل سلطة وتفريعاتها بما يكفل أعمال مبدأ الرقابة على أدائها، وهو في الحقيقة فصل جزئي لأن الهدف النهائي تحقيق التكامل في الأداء بين كافة الأجهزة والمؤسسات.
ولضمان إيمان أبناء المجتمع بتلك الدولة فينبغي أولًا إعمال مبدأ سيادة القانون، فالقانون لفظ خاص له مدلول عام؛ إذ يقصد به كافة النظريات التعاقدية المنبثقة عن القانون الأسمى وهو الدستور، والأصل في هذه العملية هو أن كل التشريعات وجدت لتحقق الصالح العام المستوعب لكافة المصالح الخاصة. والديمقراطية الحقيقية لا تتحقق إلا بسيادة القانون، والذي من الأهمية أن يتحول إلى سلوك وأخلاق تتبع طواعية وليس خوفًا من عقاب أو حبًا في مصلحة ذاتية، وفي ذلك طالب جلالة الملك في كلمته السامية بـ "حماية أركان دولة القانون وإرساء سيادته" وإن كان من الأهمية أن يتحقق ذلك من خلال سياسة شفافة ونزيهة، وهي إحدى العناصر الضرورية للحكم الرشيد، والتي تثبت فاعلية الدولة المدنية الحديثة، ويقصد بها الوضوح فيما تقوم به المؤسسات كافة وعلاقتها مع المواطنين المنتفعين من خدماتها، وعلانية الإجراءات والغايات والأهداف؛ فهي تقوم على التدفق الحر للمعلومات المرتبطة بمصالح الناس مما يساعد على فهمها ومراقبتها لجعل مؤسسات الدولة أكثر فاعلية.
وهنا تتجسد الأهمية العميقة لأفراد المجتمع في تفعيل مبادئ الدولة المدنية الحديثة، وضمان إقامتها من خلال المشاركة السياسية، والتي تعني العملية التي يلعب الفرد من خلالها دورا مؤثرا من أجل المجتمع وتكون لديه الفرصة بأن يسهم في مناقشة الأهداف والسياسات العامة والخاصة بذلك المجتمع وتحديد أفضل الوسائل لإنجازها، وقد تتم المشاركة من خلال أنشطة مباشرة مثل الانتخابات أو غير مباشرة مثل التوعية السياسية من خلال وسائل الإعلام، وبالتالي فإن المشاركة السياسية تعني مساهمة الفرد بدور ما في المجال السياسي أو في الشأن العام المرتبط بالمؤسسات السياسية، وتأتي محورية الدور الذي تلعبه المشاركة السياسية من كونها أداة إنتاج المؤسسات التمثيلية المنتخبة المحلية والإقليمية والوطنية. وتمثل المشاركة السياسية على مستوى الجمعيات والتنظيمات السياسية أداة أساسية لتفعيل الحراك الديمقراطي رأسيًا وأفقيًا فمن خلال هذه المشاركة يتم استيعاب التعدد والتنوع داخل كل إطار تنظيمي وبشكل أعمق وبصورة تثري حالة التعدد والتنوع في المجال العام، وتمكن من اكتشاف قيادات ذات كفاءة وفاعلية قادرة على تمثيل منظماتها في المناصب العامة.
ولا تأتي تلك المشاركة السياسية إلا من خلال قبول الآخر، والإيمان بالتعدد والتنوع وهو ما يجسده المجتمع البحريني وهو ذاته ما أثنى عليه جلالة الملك في كلمته السامية في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الخامس؛ حيث ذكر أن "مساندة شعبنا الوفي، المعروف بسماته المتحضرة، فكرًا وعلمًا وعطاء، صانعًا بذلك نموذجًا إنسانيًا فريدًا في احتضانه للتعددية، ودعوته للسلام، ونشره لثقافة التسامح والتعايش في مجتمعنا الآمن" وهو ما يسّر الطريق نحو إقامة الدولة المدنية الحديثة؛ حيث يعني ذلك القبول المجتمعي بالحق في التعدد السياسي والاجتماعي والاعتراف بالآخر، واعتراف كل القوى والأطراف ببعضها بما يمثل الضمان الفعلي للممارسة الديمقراطية بدون رغبة أو محاولة من طرف لإقصاء الآخر، فيتحقق بذلك التعايش الذي يمثل الشرط الموضوعي للاستقرار السياسي والمجتمعي، وقد نجحت الديمقراطية تاريخيًا في تحقيق التعايش المعبر عن الاعتراف بالتعددية في العديد من المجتمعات بفضل تلك الروح السائدة فيه.
ولكن نضج الممارسة الديمقراطية في الواقع المجتمعي فكرًا وممارسة لا تبدأ إلا من خلال تنوير الشعب بمجموعة الحقوق مقابل الواجبات، بحيث يكون المواطن قادرًا على المطالبة بحقوقه والحصول عليها، وتتولى مؤسسات التنشئة الاجتماعية تلك المهمة من خلال نشر الثقافة السياسية المدنية عبر وسائط التوعية ووسائل الاتصال الجماهيري، وكلما زاد الوعي بالديمقراطية زادت معدلات المشاركة السياسية الواعية والفاعلة وانعكس ذلك إيجابًا على حدوث تطور سياسي يؤدي إلى تطور مجتمعي عام بفعل التكامل بين البناء الفوقي والتحتي في ظل قيادة رشيدة مؤمنة بتلك القيم وساعية إلى تنوير المجتمع بها.