يتنوع البشر في مستوى تعاطيهم مع العلم وقدرتهم على تحويله على نحو تراكمي منظم إلى معرفة خاصة تشكل قدرتهم من عدمها في تكوين الأفكار العلمية والآراء الرصينة والقرارات الموفقة. صحيح أن ذلك يعود لكثير من العوامل البيئية المحيطة، ولكن ثمة شغف خاص وإرادة على درجة ما لكل منا يحددان مستوى إقبالنا على العلم لاكتساب المزيد واقتناص الفرص للاستنارة والفهم والتنمية. وقد قادني للحديث عن هذا الأمر اليوم نوع مستفز مثير للاهتمام في هذا السياق.

من الناس صنف يلتهم الكتب التهاماً، ويبحث عن العلم في كل فرصة متاحة «عبر محاضرة، أو مقابلة تلفزيونية، أو نشرة مطبوعة، أو مقالة منشورة»، ينخرط في كل ما يمكنه إكسابه معلومة أو فكرة، بعضهم في إطار اختصاصه الأكاديمي أو المهني، وآخرون تتنوع مجالات اهتمامهم، ما يقود أحياناً لوسمهم من قبل البعض بعدم التنظيم والشتات، بينما يراهم آخرون نموذجاً مميزاً للمثقف الموسوعي. لكن هؤلاء أيضاً ينقسمون إلى نوعين، فالأول يأخذ المعلومة كما جاءته دون تمحيص وتفنيد، ويتعاطى معها على أنها الحقيقة المطلقة، ويجادل ويحاجج بها، فتجده رغم ما حفظ من معلومات غير قادر على تكوين آرائه المستقلة وأفكاره الخاصة. أما النوع الثاني، فذلك المفكر، الذي يحول المعلومات الواردة إليه إلى معرفة خاصة، ينتجها من خلاصة خبراته وتجاربه، ويقيم الروابط بين ما حصل عليه من معلومات وخبرات، قادراً على التحليل وعلى تفنيد القضايا وإقامة الحجج المنطقية لقبول فكرة أو رفضها، يحترم آراء الآخرين –ومنهم المتخصصين- ولكنه لا يكسبها صفة القداسة، بل يخضعها للمعالجة في عقله ليتبين حجم موافقتها لخبراته وتجاربه، وللتحقق إذا ما كانت تشكل إضافة قيمة أو تلقى تأييداً منطقياً لديه، وذلك مثير للإعجاب بلا شك.

صنف آخر من الناس، تجده معرض عن أي شيء من شأنه إكسابه الثقافة والمعرفة، غارق في ملذات الحياة ومشاغلها حتى النخاع، ينظر للمشاركات الثقافية ومتابعات القضايا والاهتمام بالمستجدات أو الأمور العلمية على أنها ضرب من الفلسفة التي لا داعي لها، بل شكل من أشكال التعقيد للحياة، وأن الصنف السابق الذكر ما هم إلا نوع من الفلاسفة المغالين في تعاطيهم مع الحياة ومنحها تلك الجدية البالغة من البحث والاهتمام الذي قد يبدو بالنسبة لهؤلاء ضرباً من إضاعة الوقت.!! هذا رأيهم، ولن نجادل فيه.

* اختلاج النبض:

الصنف الذي أود الوقوف عليه ليس من هذا النوع ولا ذاك، إنما هو نوع مصاب بالغرور العلمي، قرأ كتاباً أو حفظ درساً، فصار يتبجح على العالم بعلمه ومعرفته، مُنكراً كل رأي مخالف، ومسهباً في الإضافة والتوضيح لكل رأي مؤيد، فلا أحد يفهم سواه، ولا علم يرقى لمستوى أن يكتسب منه المزيد، يظن بنفسه قمة العلم والإلمام التام. وهو نوع خطر، يهتم بالعلم نوعاً ما، ولكنه لا يسعى للوصول للذة دهشة العلماء في اكتشافهم للكون وعلوم الحياة المختلفة، ولا في الانفتاح على الآراء والثقافات الأخرى، وهم نوع من «الوباء الثقافي» الذي نطلق عليه بلهجتنا العامية «ماخذ في نفسه مغلب».