بلاغة الحكاية في أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ (2-3) ... المنظور الحكائي
د. محمد زيدان
اتخذ المنظور الحكائي عند نجيب محفوظ أشكالاً كثيرة على مدار رحلته السردية، بداية من المنظور التاريخي الذي يتذرع بالخيال الحركي القائم على المفارقات المتنوعة المؤسسة للحكاية، ومروراً بالمنظور الواقعي الذى يرصد فيه داخل الشخصية، ويوحد في نهاية الأمر بينها وبين الواقع أو يرصد الواقع ويوحد بينه وبين خارج وداخل الشخصية وحتى المنظورات الحكائية الرمزية والتي ظهرت في روايات ثرثرة فوق النيل وما شابهها من حكايات، أما في أصداء السيرة الذاتية فإنه يقدم منظوراً حكائياً متعدد الرؤى والتأويلات؛ لأنه يرصد الذات في وجودها المتباين داخل مجموعة من الأفعال والمواقف وفي أثناء ذلك يصنع من كل فعل وتأويله ومن كل موقف وما يقدمه منظوراً مصاحباً يتسق دلالياً مع الصورة العامة للمنظور المؤسس.
تأويل وتأويل مصاحب
في نص رجل الأقدار استطاع الراوي أن يقدم الحياة ونقيضها من خلال منظور ذاتي واحد صب فيه كل ما يمكن أن يصل إليه المتلقي من تأويل وتأويل مصاحب أو مضاد حتى يصل إلى درجة من درجات الحياد الدلالي بين الصور والمواقف التي تتحول في النص إلى مجموعة من الإشارات النصية للراوي، "لم أنسَ ذلك الرجل كان معلمي فترة طويلة من العمر. اشتهر في حياته بتلاحق المحن والتعاسة الزوجية ورقة الحال، ولكنه اشتهر أيضاً بالصبر والقدرة على معايشة الألم والانغماس في الكآبة ولما تقدم به العمر انضاف إلى متاعبه تصلب الشرايين، وأخذت ذاكرته تضعف وتتلاشى ومضى ينسى فيما ينسى خسائره وجميع ما ناله من عنت الحياة فخف عبئه وهو لا يدري، وطعن في المرض فنسي زوجته تماماً وأنكرها وأصبح يتساءل عن سر وجودها في بيته، وذهب عنه الكثير من كدره وبلغ به المرض مداه فنسي شخصه ولم يعد يعرف من هو وبذلك تسنم قمة الراحة. هكذا أفلت من قبضة الحياة القاسية حتى غبطه من كان يرثي له"... أصداء السيرة الذاتية ص92.
منظوران مؤسس ونقيض
تبدو صورة رجل الأقدار من خلال منظورين يصعدان في الحكاية من وجهة نظر الراوي العليم، فهو ينسب كل فعل من الموقف إلى القدر فهو الذى يحركه من الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه يظهر تطور الفعل العام داخل النص بين دلالات كثيرة تطرح الصورة السردية التي تمتزج بمفردات ورؤى واقعية من خلال الذات على النحو التالي: منظور مؤسس: كان معلماً اشتهر بتلاحق المحن والتعاسة ورقة الحال. منظور نقيض: اشتهر بالصبر والقدرة على معايشة الألم. حيث: واقع الذات وعلاقتها بالموقف الحكائي الذي يتطور ليصبح موقفاً سردياً عاماً، وواقع الحياة من منظور الراوي الغائب عن الفعل النصي. وهنا تكمن بلاغة الموقف الحكائي من خلال الأبعاد النفسية للذات والوقائع الروحية في تضامنها مع المكان والزمان، هذا بالإضافة إلى أن الراوي يحول الموقف الحكائي من مجرد سرد أفعال أو أحداث إلى صورة رمزية تمتد رأسياً وأفقياً داخل الحكاية.
ففي نص الرحلة يقول الراوى: بقضاء لا راد له حملني الإذعان إلى أرض الغربة وعلمت أن الواقعة آتية لا ريب فيها غداً أو بعد غد. انتظر قليلاً ولا تتعجل المجهول. وقال الطيبون لا تخف فقد سبقناك في نفس الطريق. تنبسط أمامي حديقة مترعة بالحسن وتذهب الفاتنات وتجيء. ودعيت بالغناء، ولكني شغلت بالخواطر والهواجس وانتزعت حواسي لاجتياز الغابة الدامية. لم يبقَ لي منها سوى ذكريات أشباح وأصداء كوابيس خانقة وأثر باق لمعركة طاحنة. وقالوا آن لك التجوال في رياض الشمال ولكن قلبي نازعني إلى الملعب بين السبيل والتكية. وصلت وأنا ألهث. الوجه والإهاب والنظر كل شيء تغير ... أصداء السيرة الذاتية – مكتبة الأسرة 2004 – ص74.
علاقات الحدث والرمز والواقع
يجمع الراوي علاقات الحدث والرمز والواقع في مجموعة من التصورات الذاتية التي يزاوج فيها بين التفكير الصوري القائم على ربط الموقف بالفكرة والزمان والمكان، فهو يقدم الموقف معتمداً على إمكانية التفاعل بين العلاقات السابقة وبين ما يطرأ لدى المتلقي من تأملات بالحكاية أو بالصدى المنقول من أجواء الحكاية، فالراوي يوزع العلاقات الذاتية بين عدد من آليات الانسجام النفسي.
التأسيس للانسجام النفسي بين صورتي الذات في الحكاية، فالصورة الأولى للراوي في الزمن الماضي وكل ما تنتجه الدلالات من خلال علاقة المكان والذات آن حدوث الفعل، أما الصورة الثانية للذات فتتمثل في الراوي القائم بالحكاية، وأظن أن نجيب محفوظ أراد أن يقدم هذا التماهي من خلال الموقف معتمدا على سياق فكري يقدم الصورة والرمز والموقف في آن واحد.
التأسيس للانسجام الفني بين عناصر الحكاية فالفعل يتم تقديمه من ازدواج الرؤيتين السالفتين، رؤية الواقع من خلال الذوات المتعددة في الموقف في سياقه الفكري متمثلة في: "انتظر قليلاً ولا تتعجل المجهول". وبالنظر لعنوان الحكاية الرحلة فإن المتلقي إزاء تعاقب جانبين مؤسسين للموقف الحكائي سواء في إخفاء الظاهر.
رباط فني واحد
إذا ساوينا بين الرحلة بمعناها المادي والرحلة بمعناها المجازي ففيها اجتياز لحياة الإنسان المادية وصولاً إلى الحياة الحقيقية للروح بعيداً عن المادية المبطلة لحواس الإنسان في مجتمعات تطغى فيها كل شيء على الحواس أم كان في إظهار الخفي من صورة الرحلة الحياتية التي تتمثل أبعادها في: "لكن قلبي نازعني بين السبيل والتكية".
وفي الوقت نفسه يربط الأبعاد في رباط فني واحد وهو تأويل يتصل بترميز الموقف والكثير من الشواهد تدل على إطار الاتساق الفني المشكل لبلاغة الموقف بين ازدواج الرؤية أحياناً وإفرادها في أحايين كثيرة. "تنبسط أمامي حديقة مترعة الحسن". منظور مصاحب للمنظور المؤسس: المرض. منظور مكون للموقف: "ذهبت ذاكرته نسي نفسه خفت متاعبه". منظور مصاحب للمنظور المكون: "وصل إلى قمة الراحة. أصبح يحسده من كان يتألم له".
وفي كل تأويل لأجزاء المنظور الحكائي استطاع الراوي أن يصل بالحكاية من جانبها المأساوي في بدايتها المحايد في نهايتها، وهو بذلك يضيف إلى المنظورات الحكائية الخمسة منظورين يكملان دائرة الاتساق السردي والحكائي ووصولاً بالمتلقي إلى حالة من الرضا عن الذات، حتى بلغ درجة من درجات تحول المنظور الحكائي في السياق العام للحكاية؛ وهكذا تبدو بلاغة النص فيما يقدمه من دلالات إلى جانب ما يقدمه من تشكيل لهذه الدلالات ولا تبقى الصورة البلاغية كما في شكلها الكلاسيكي مرتبطة باللفظ وعلاقته بالمعنى، ولكن بالسياق العام والموقف والمنظور بالشكل الملائم لكل درجة من درجات التحفيز الدلالي في النص.
كاتب مصري