د.منصور محمد سرحان
شهد نهاية عقد الثلاثينيات من القرن العشرين البدايات الأولى لحركة النقد الأدبي في البحرين ممثلة في المراسلات التي تمت بين الأديبين إبراهيم العريض وعلي التاجر في الفترة من عام 1938م إلى عام 1939م، أثناء وجود علي التاجر يعمل متنقلا بين أبوظبي ودبي.
تمحورت تلك المراسلات حول ثلاث قصائد من نظم الشاعر إبراهيم العريض، وهي: "التمثال الحي"، و"قلب راقصة"، و"الشاعر المجهول" حيث بدأت حرارة النقد الأدبي بينهما في الارتفاع.
ومن حسن الحظ أن الأستاذ إبراهيم العريض سلمني جميع تلك المراسلات النقدية التي دارت بينه وبين الأستاذ علي التاجر وقمت بتوثيقها في كتابي "النقد الأدبي في البحرين خلال القرن العشرين: أضواء على بدايات الماضي ومسيرة الحاضر الصادر في عام 2006م.
قصائد ثلاث
بدأت عملية نقد القصائد الثلاث بسيطة، ثم أخذت تزداد قوة ووضوحا في المراسلات الأخيرة، وتحولت تلك المراسلات إلى بحوث ودراسات نقدية جديرة بالقراءة. وقد تميزت تلك الأعمال النقدية بالصراحة والشفافية، وبالالتزام بالنقد البناء، الأمر الذي أدى إلى إثراء تلك المراسلات وما ضمته من حوارات نقدية.
كان التاجر كعادته يبدأ بإرسال رسالة مقتضبة جدا يهيئ فيها الجو لطرح وجهات نظره النقدية حول القصيدة التي يريد تناولها. ففي السادس من يناير سنة 1939م بعث برسالة قصيرة إلى العريض يبلغه فيها عن انطباعه العام حول قصيدة (الشاعر المجهول)، وأنه سيكتب عنها فيما بعد ذاكرا: "قرأت كلمتك ومن ثم فقصيدة "الشاعر المجهول" البارحة وقد هيمن الليل وهجعت الأعين! قرأتها فلم تعطر أجواء وحدتي فقط! بل أعادت هذا القلب الذي تصلد إلى شيء من سابق عهده يحس ويشعر. وإن لي لملاحظة سأبديها لكم حول القصيدة إن استطعت أن أتغلب على هذا التردد الذي يحدو بي للإحجام. وعلى كل أرجو أن أراها تزين صفحات الرسالة (يقصد مجلة الرسالـة) عن قريب جدا".
الشاعر المجهول
وتعد المراسلات التي جرت بين الـتاجر والعريض حول قصيدة (الـشاعر المجهول) أصدق أنواع النقد والأكثر حيوية، بل إنها أساس بناء الـنقد الأدبي المبكر في الـبحرين. فقد اختلفت المنهجية في معالجة أبيات القصيدة وما تحمله من معنى، وتحولت المراسلات إلى كتابة بحوث ودراسات نقدية جادة تناولت القصيدة من أولها إلى آخرها. وحاول كل منهما تعزيز وجهة نظره من خلال الشرح الوافي لبعض أبيات القصيدة التي دار حولـها الجدل.
أدى الاختلاف، الذي برز بينهما حول القصيدة، إلى اتباع خطاب جديد في مجال الكتابة النقدية، تمثل في كتابة الدراسات والمقالات النقدية المتكاملة العناصر، بدلا من الحوار البسيط الهادئ الذي جرى بينهما في قصيدة (التمثال الحي)، والذي طوره التاجر إلى المقالة النقدية القصيرة في القصيدة الثانية (قلب راقصة). رغم كل ذلك الاختلاف، إلا أنه يجمعهما الذوق الأدبي الرفيع، والروح الرياضية العالية.
بعث التاجر مقالته النقدية في 15 يونيو 1939م مشفوعة برسالته، وهذا نصها: "أستاذي الجليل الأستاذ العريض. تحياتي وأشواقي: هذه كلمتي في (الشاعر المجهول) وقد اقتصرت فيها على المآخذ. وبودي لو ينالها قلمكم مرة أخرى بالإصلاح. وعسى أن أراها في ثوبها الجديد فإنها لشيء جميل يجب أن يحتفل له.
وبعد؛ فلقد كنت جد صريح في بسط آرائي، ولهذا لا أرغب أن يطلع أحد على كلمتي هذه قبل أن أرى رأيكم فيها. فإن كان فيها خير فبها وإلا فإلى سلة المهملات فليس لدي نسخة غيرها.
هذا وإني لأتلهف شوقا لأن أعرف كيف حياتكم الأدبية بعدها؛ فهل لي أن أنال كلمة منكم في القريب العاجل. وتحياتي للإخوان وتقبل أزكى أشواقي الحارة. دبي 26 ربيع الأول 1358. تلميذكم علي".
وفي الأول من يوليو1939م رد العريض على المقالة النقدية، التي كتبها التاجر حول القصيدة، وبين فيها كيف أنه خالف طلبه فعرض رسالته بما فيها من نقد على جملة من الأصدقاء، فوجدهم يوافقونه على بعض الآراء ويخالفونه في البعض الآخر. وفي الأخير وعده بأنه سيواصل كتابة ملاحظاته على ما جاء في كلمته. وكانت رسالة طويلة وفيما يلي نص الجزء الأول منها: "عزيزي التاجر!. أسعد الله أوقاتك في عالم وحدتك، وعطر أرجاءها بنفحات الحب. وبعد لازال مكتوبك بين يدي، وأنا أتحين الفرص للإجابة عليه، ولبثك ما يخامرني من شعور الارتياح لدى قراءته كل مرة. بلى فلقد حرصت على قراءته مرارا، وأنا أحمد ربي على أن أخرجك من كهف هذا الصمت الممض إلى ميدان الأدب الفسيح، الذي تسرح فيه النفس نشوى بعد قفولها من أشغال النهار.
ولقد خالفت طلبك، فأطلعت كلماتك الجميلة الـى كل من لديه نسخة من (الشاعر المجهول) -وهم من تعلم- حرصا على ألا يفوتهم التمتع بصفحات من النقد الصريح. ولقد وجدتهم يوافقونك على بعض ما تبسط من آراء، ويخالفونك في مواقف، ولكل وجهة نظر. وإنهم ليؤمنون مع محبك بالذوق الشخصي قبل الـذوق العام، ويعتقدون بما له من أثر في توجيه تيار الأدب الى مجرى دون آخر من هذه المجاري المتباينة في عالم البيان. ولعلك معنا أنه لولا هذا الذوق لانعدم التمييز بين الشخصيات الحية بأحاسيسها المستقلة بأرواحها، وأصبح كل أثر متخلف صورة مكررة عما تقدمه من الآثار، يقاس كما تقاس المادة بالكيل ويوزن بالقنطار ويثمن بقدر ما يكون بينه وبين أصوله الجامدة من تشابه واقتران. وفي هذا ما فيه من غباء يحرص محبك كل الحرص ألا يقع فيه.
وبعد؛ فهل القصيدة تتطلب كل هذا التشذيب والتهذيب حقا، وهل تتألف في وضعها الحاضر من كل هذه الشوائب، بحيث لو تمت التجربة التي ترغب فيها لأصبحت خلقا آخر لا تمت إلى حاضرها بصلة".
بحث وتعليق
كانت مراسلاتهما تضم وجهات نظرهما النقدية التي تكتب تحت عنوان (بحث وتعليق) والتي استمرت في الفترة من عام 1938م وحتى عام 1939م، حيث توقف بعد ذلك الجدال النقدي بينهما، لتبدأ كتابات نقدية في جريدة البحرين في الفترة من عام 1941م وحتى عام 1942م.
اهتمت جريدة البحرين (1939 - 1944) بأمور الأدب بشكل خاص؛ فنشرت على صفحاتها المقالات الأدبية المتنوعة، والقصص القصيرة، والعديد من القصائد ذات الاتجاه الكلاسيكي لشعراء من البحرين والخليج العربي. وأصبح بإمكان المرء أن يجمع منها دواوين كاملة لشعراء بارزين آنذاك كالشاعر عبدالرحمن المعاودة، والشاعر الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، والشاعر الكويتي فهد العسكر وغيرهم، بالإضافة إلى صاحب الجريدة.
رباعية المعاودة
أفسحت جريدة البحرين مجالا للنقد الأدبي حتى بلغ عدد المقالات النقدية التي نشرتها الجريد قرابة 42 مقالا نقديا تركز 35 منها في السجال الذي دار حول تجربة الشاعر عبدالرحمن المعاودة الخاصة برباعيته الشعرية. وشارك في هذا السجال مجموعة من الأدباء من أبناء البحرين والخليج.
بدأ السجال بمقالة نقدية نشرت في الجريدة في العدد (137) الصادر في 16 أكتوبر من عام 1941م كتبها عبدالله محمد الرومي، الذي رمز إلى اسمه بابن الرومي، وهو أديب من الأحساء، انتقد فيها تجربة الشاعر عبدالرحمن المعاودة حول الرباعيات الشعرية، في مقالته التي حملت عنوان "نقد متواضع لأشعار المعاودة".
بدأ ابن الرومي نقده بالبيت الذي استهله المعاودة من مقطوعته السادسة: "هامت الروح بواد من خيال/ فتراءى لي من الحق ضلال". انطلق بعد تلك المقالة النقدية مجموعة من الأدباء من المؤيدين للمعاودة في تجربته الجديدة، ومن المعارضين الناقدين لها. وأخذت هذه المعركة النقدية مسارات خارجة عن نطاق آداب النقد، الأمر الذي جعل الشيخ عبدالحسين الحلي يتدخل لوقف هذه المعركة التي لا طائل منها.
نشرت مقالته في العدد (156) من السنة الرابعة، الصادر في 26 فبراير 1942م بعنوان (في سبيل الهدنة والصلح بين الأدباء) طالب فيها بإسدال الستار على ما أطلق عليها بالمسرحية المفتعلة. وكان لمقالته هذه أثرها البالغ بين الأدباء، إذ لم تنشر بعدها من مقالات تتعلق برباعيات المعاودة.
وكان مما ذكره الشيخ الحلي في مقالته التي أبدى فيها وجهة نظره وأسفه الشديد قائلاً: "بضعة عشر أسبوعا عبرت وجماعات من المحايدين والمتفرجين ينتظرون بفارغ الصبر أن ينتهي الفصل السينمائي الهزيل، الذي يمثله على صفحات جريدة البحرين أفراد من حذاق فن التمثيل المسرحي، وبأصرح عبارة أن جميعا من هادئ الطبع وأرباب البصائر يودون أن تخمد حرب الثلب والتجريح، والخبط والخلط التي دعوها (المعركة الأدبية) بدون مناسبة، غير مناسبة الشيء لضده".