قصة قصيرة - محمد محمود المرباطي
تنهد تنهيدة خفيفة وهو يسحب نفساً عميقاً، أحنى ظهره المتعب على مسند كرسي مكتبه الدوار ذي الجلد الرمادي الفاتح، رغم أنه لا يتناسب مع لون مكتبه الماروني الغامق، إلا أنه اختاره بنفسه منذ أكثر من 15 عاماً من محلات الأثاث التي طلبت منه جهة العمل أن يختار منها أثاث مكتبه بنفسه وعلى ذوقه الخاص. تحسس جلد الكرسي البارد بيديه الغليظتين المعروقتين، مرر أصابعه الخشنة الجلد، وهمس في نفسه همسة خافتة محدثاً كرسيه الأثير:
ــ إيه يا عزيزي ورفيق دربي الطويل، هل حقاً سأغادرك الى الأبد بعد دوام هذا اليوم الأخير في عملي معك؟
مسح عينيه المغرورقتين اللامعتين من انكسارات بلورات المياه السابحة في مقلتيه عندما باغته صديقه القروي إبراهيم البلادي، المزارع القديم في الوزارة التي يعملان فيها لسنين طويلة، وضع إبراهيم "السّباك" المصنوع من خوص النخل بألوان زاهية، كان مصفوفاً بداخله بعناية فائقة صرات من أغصان ناعمة من شجرة المشموم النافذة الرائحة المنعشة التي اعتاد أن يحضرها معه عند زيارته له كل عدة شهور من مزرعته الصغيرة الملحقة بمنزله الطيني المتهالك بناؤه والذي ورثه من والده. كان إبراهيم دائماً يخبئ في أسفل السباك بعضاً من الثمار اللذيذة للفواكه الموسمية كاللوز والرمان والتوت والكنار التي يفرح بها الصغار كثيراً.
رغم ملامح وجه إبراهيم القاسية التي تدل على تعبه الشديد وهزال جسده من حالته المادية المتواضعة لضحالة مرتبه على الدرجة الثانية التي لا يزيد راتبها على المائة والخمسين ديناراً، فقد كانت السعادة والبشر يغلبان على ذلك المحيا القروي الصلب من العمل تحت لهيب الشمس الحارقة عند دخوله الى مكتبه، ويجلس بجانبه وهو يزفر بزفرة فيها أسى على حال الدنيا وعجائب الدهر، ولا يبدأ بالحديث إلا بعد أن يلقي عليه بعض الأشعار الشعبية والمواويل بلهجته القروية الجميلة وكثيراً من الأمثال والحكم القديمة المأثورة، ويبدأ بعد ذلك بمحاورته المعتادة:
ــ إيه يا أخ أحمد، متى ستحال على التقاعد المبكر إن شاء الله؟
ــ يا صديقي إبراهيم، أتصدق اذا قلت لك أن هذا اليوم هو اليوم الأخير في حياتي الذي سأقضيه هنا، لقد كانت صدفة كبيرة وغير متوقعة أن تزورني ومعك هذه الأوراق الزاهية الجميلة من المشموم كعادتك الكريمة، أنا قررت أن أزرع هذه الأوراق الرقيقة في منزلي لتصبح شجرة كبيرة تذكرني بصداقتك العزيزة ولتكون تربة منطقتي المحرق تنبت عليها شجرة قريتكم البلاد القديم الطيبة.
لم يتمالك إبراهيم نفسه وقام يعانقه بحرارة متمنيا أن يلتقيه ويتواصل معه في المحرق.
غادر مكتبه وهو يهمهم بعدة كلمات سريعة عند الممر المؤدي إلى باب الخروج، قائلاً لأحمد:
ــ ماذا ستفعل بعد تقاعدك ؟
كان سؤاله كمطرقة ثقيلة هوت على رأسه فجأة، فهو لم يفكر أبداً في هذا الموضوع عندما طلب إحالته على التقاعد المبكر وهو مازال في عمر ليس بالكبير نسبيا، فقد أنهى هذا اليوم الخامسة والخمسين عاماً وصحته لم يطرأ عليها أي ضعف أو خواء.
حقاً ماذا سيفعل بعد نهاية هذا الدوام الأخير في مكتبه، لم يجاوب صديقه إبراهيم البلادي بشيء غير السكوت والخوف من المجهول القادم.
لم يتخيل احمد أن الأيام التالية ستمر بهذه الرتابة المملة المقيتة، اضطربت حياته الجديدة غير المألوفة له ولأسرته. ها هو الآن أصبح شخصاً ثقيلاً لا يفارق المنزل منذ الصباح الباكر حتى منتصف الليل إلا لساعات قليلة لقيلولة الظهر التي ينام فيها بعسر وتعب لأن جسده لم يعد متعبا وبحاجة الى راحة واسترخاء كأيام العمل المرهقة التي يغيب فيها عن المنزل منذ الصباح الباكر حتى وقت العصر وأحيانا حتى قبيل المغيب وفي حالات كثيرة تستدعي منه العمل الاضافي الليلي. لم يجد لديه أحاديث مشوقة وأخبار العمل ومشاكله وهمومه ومقابلات الأفراد وحكايات العملاء ليرويها لزوجته عند الغداء وهي تغمره بصنوف الطعام الشهية وبأناقتها الجميلة وملابسها المثيرة في استقباله.
أخذ يحس بنهاية حياته وتاريخه وقيمته ومكانته المرموقة، لام نفسه كثيراً، إنه تعجل قرار تقاعده المبكر، لِمَ لم يكمل الخمس سنوات الباقية ليصل إلى الستين عاماً ويتقاعد بعدها إجبارياً فلا من لائم ولا من يعيره بعد ذلك، فهي السن القانونية التي تجبر كل شخص يصل إليها على الرحيل الأبدي عن مكان عمله الممل. مع ذلك هو يعلم أنه عندما اتخذ قراره في التقاعد المبكر كان صائباً في قراره، ولكن لم يكن يعلم كيف؟ هو يحس في أعماقه أن لديه طاقات وهوايات كثيرة لم يقم بإشباعها طوال حياته، ظروف العمل المرهقة القاسية وتربية أفراد أسرته الكثيرة العدد، وبذل الجهد الكبير لاستقرار عائلته وتوفير المسكن والمأكل والتعليم لهم قد أخذ منه كل مأخذ، فلم تحظ روحه بأية فرصة سانحة لعمل ما كان يحبه ويهواه. فكر إذا ماذا يعمل في كل هذه الساعات الطوال المهدورة من عمره المتبقي؟ كثيرا ما كان يخجل من نفسه، عندما يتلاقى مع أحد الموظفين من زملائه أو اصدقائه من الحي، عندما يسألونه ماذا يعمل بعد تقاعده؟ وكان يجيبهم بمرح مفتعل وهو في حالة حرج:
ــ لا شيء البتة، ولماذا أعمل وأنا الذي طلبت من تلقاء نفسي التقاعد المبكر، لو كنت راغبا في مواصلة العمل لمكثت في عملي وكان أيسر لي وأفضل من أن أبحث عن عمل آخر جديد، والصراحة أنا أخذت عهدا على نفسي أني لن آخذ عملاً وهناك شباب عاطل أحوج مني إليه.
في البيت بدأ يحس بالضيق وشعر بأن زوجته تتأفف من كثرة وقوفه معها في المطبخ وأحاديثه الممله التي لا تخلو من العتاب والملاحظات والاخطاء والتنبيهات والتحذيرات، إنها لم تعتد طيلة حياتها معه هذه الطريقة من المعاملة، الى أن وصل الأمر إلى حد الصدام بينهما بعد تلك العشرة الطويلة الهانئة التي زادت على الثلاثين عاماً.
انسحب تدريجيا وانكفأ على نفسه لأيام لا يكلم أحداً إلا اضطراراً، يحاول أن يبتعد عن الإنسانة الوحيدة التي تبقت له بعد أن هجر بيئة العمل والمجالس وطرقات الحي، حتى لا يؤذي مشاعرها المضطربة هي الأخرى من التغير المفاجئ في طبيعة حياتها بعد مكوثه الطويل المضجر معها في البيت.
شهور عصيبة مرت عليه وهو ضائع، شقاؤه ويأسه كادا يفتكان به ويهلكان بقية صحته، ويوهنان جسده الذي بدأ يشيخ ويهرم سريعاً بعد تلك القوة والطاقة التي كان يتمتع بهما إلى آخر يوم في عمله، هل هو يدمر نفسه بهذه الطريقة الغريبة والحياة السلبية التي يعيشها من غير أن يدرك ذلك، سأل نفسه ذاك السؤال المحير في ذاته بتوتر وانفعال، لا بد أن اعمل شيئا أنقذ به روحي اليائسة المعذبة، قالها مراراً وهو يردد في نفسه المهزومة:
ــ يحب أن أبحث عن تلك الحماسة الشديدة التي ضربت وجداني ذات يوم مشرق بالتحدي، والتي من أجلها أقدمت مجازفاً على طلب التقاعد المبكر، أنني كنت متفائلاً جداً بأني سأحيا حياة مزدهرة بالجديد والابتكار والانتاج، كنت أحلم بأني سوف أقوم بإنجازات كثيرة كنت أحبها في صغري وشبابي. لا بد من حل سريع لأعيش حياة طبيعية بعد التقاعد.
توجه مسرعاً إلى حوش منزله، لأول مرة نظر في التربة الصفراء ملياً، تلك التي تقع في منتصف الحوش والتي كانت بمثابة حديقة واسعة مهملة، لم يزرع فيها شيئاً منذ سنين طويلة غير تلك الأغصان الصغيرة من شجرة المشموم التي أهداها إياه صديقه المزارع إبراهيم البلادي.
نظر إلى الأغصان بعمق ودقق بين وريقاتها القليلة، فعجب في ذاته عندما وجد أنها أنبتت براعم كثيرة ومدت فروعاً جديدة وأرواقاً خضراء يانعة تنبعث منها الرائحة الزكية كالتي كان تفوح بقوة عندما يجلبها طرية أول مرة صديقه إبراهيم في مكتبه، وهي تزكم أنفه وتنعش روحه.
ركض إلى الكراج وسارع الى إحضار الشيول والصخين وضرب بهما الأرض اليابسة ضربات متتالية والعرق ينزف منه، كان سعيداً بالتعب والإرهاق اللذين شعر بهما لأول مرة بعد تقاعده، لينتج حديقة كبيرة مليئة بالثمار والزهور بعد توالي الأيام الجميلة، أذهلت كل من شاهدها.
تنهد تنهيدة خفيفة وهو يسحب نفساً عميقاً، أحنى ظهره المتعب على مسند كرسي مكتبه الدوار ذي الجلد الرمادي الفاتح، رغم أنه لا يتناسب مع لون مكتبه الماروني الغامق، إلا أنه اختاره بنفسه منذ أكثر من 15 عاماً من محلات الأثاث التي طلبت منه جهة العمل أن يختار منها أثاث مكتبه بنفسه وعلى ذوقه الخاص. تحسس جلد الكرسي البارد بيديه الغليظتين المعروقتين، مرر أصابعه الخشنة الجلد، وهمس في نفسه همسة خافتة محدثاً كرسيه الأثير:
ــ إيه يا عزيزي ورفيق دربي الطويل، هل حقاً سأغادرك الى الأبد بعد دوام هذا اليوم الأخير في عملي معك؟
مسح عينيه المغرورقتين اللامعتين من انكسارات بلورات المياه السابحة في مقلتيه عندما باغته صديقه القروي إبراهيم البلادي، المزارع القديم في الوزارة التي يعملان فيها لسنين طويلة، وضع إبراهيم "السّباك" المصنوع من خوص النخل بألوان زاهية، كان مصفوفاً بداخله بعناية فائقة صرات من أغصان ناعمة من شجرة المشموم النافذة الرائحة المنعشة التي اعتاد أن يحضرها معه عند زيارته له كل عدة شهور من مزرعته الصغيرة الملحقة بمنزله الطيني المتهالك بناؤه والذي ورثه من والده. كان إبراهيم دائماً يخبئ في أسفل السباك بعضاً من الثمار اللذيذة للفواكه الموسمية كاللوز والرمان والتوت والكنار التي يفرح بها الصغار كثيراً.
رغم ملامح وجه إبراهيم القاسية التي تدل على تعبه الشديد وهزال جسده من حالته المادية المتواضعة لضحالة مرتبه على الدرجة الثانية التي لا يزيد راتبها على المائة والخمسين ديناراً، فقد كانت السعادة والبشر يغلبان على ذلك المحيا القروي الصلب من العمل تحت لهيب الشمس الحارقة عند دخوله الى مكتبه، ويجلس بجانبه وهو يزفر بزفرة فيها أسى على حال الدنيا وعجائب الدهر، ولا يبدأ بالحديث إلا بعد أن يلقي عليه بعض الأشعار الشعبية والمواويل بلهجته القروية الجميلة وكثيراً من الأمثال والحكم القديمة المأثورة، ويبدأ بعد ذلك بمحاورته المعتادة:
ــ إيه يا أخ أحمد، متى ستحال على التقاعد المبكر إن شاء الله؟
ــ يا صديقي إبراهيم، أتصدق اذا قلت لك أن هذا اليوم هو اليوم الأخير في حياتي الذي سأقضيه هنا، لقد كانت صدفة كبيرة وغير متوقعة أن تزورني ومعك هذه الأوراق الزاهية الجميلة من المشموم كعادتك الكريمة، أنا قررت أن أزرع هذه الأوراق الرقيقة في منزلي لتصبح شجرة كبيرة تذكرني بصداقتك العزيزة ولتكون تربة منطقتي المحرق تنبت عليها شجرة قريتكم البلاد القديم الطيبة.
لم يتمالك إبراهيم نفسه وقام يعانقه بحرارة متمنيا أن يلتقيه ويتواصل معه في المحرق.
غادر مكتبه وهو يهمهم بعدة كلمات سريعة عند الممر المؤدي إلى باب الخروج، قائلاً لأحمد:
ــ ماذا ستفعل بعد تقاعدك ؟
كان سؤاله كمطرقة ثقيلة هوت على رأسه فجأة، فهو لم يفكر أبداً في هذا الموضوع عندما طلب إحالته على التقاعد المبكر وهو مازال في عمر ليس بالكبير نسبيا، فقد أنهى هذا اليوم الخامسة والخمسين عاماً وصحته لم يطرأ عليها أي ضعف أو خواء.
حقاً ماذا سيفعل بعد نهاية هذا الدوام الأخير في مكتبه، لم يجاوب صديقه إبراهيم البلادي بشيء غير السكوت والخوف من المجهول القادم.
لم يتخيل احمد أن الأيام التالية ستمر بهذه الرتابة المملة المقيتة، اضطربت حياته الجديدة غير المألوفة له ولأسرته. ها هو الآن أصبح شخصاً ثقيلاً لا يفارق المنزل منذ الصباح الباكر حتى منتصف الليل إلا لساعات قليلة لقيلولة الظهر التي ينام فيها بعسر وتعب لأن جسده لم يعد متعبا وبحاجة الى راحة واسترخاء كأيام العمل المرهقة التي يغيب فيها عن المنزل منذ الصباح الباكر حتى وقت العصر وأحيانا حتى قبيل المغيب وفي حالات كثيرة تستدعي منه العمل الاضافي الليلي. لم يجد لديه أحاديث مشوقة وأخبار العمل ومشاكله وهمومه ومقابلات الأفراد وحكايات العملاء ليرويها لزوجته عند الغداء وهي تغمره بصنوف الطعام الشهية وبأناقتها الجميلة وملابسها المثيرة في استقباله.
أخذ يحس بنهاية حياته وتاريخه وقيمته ومكانته المرموقة، لام نفسه كثيراً، إنه تعجل قرار تقاعده المبكر، لِمَ لم يكمل الخمس سنوات الباقية ليصل إلى الستين عاماً ويتقاعد بعدها إجبارياً فلا من لائم ولا من يعيره بعد ذلك، فهي السن القانونية التي تجبر كل شخص يصل إليها على الرحيل الأبدي عن مكان عمله الممل. مع ذلك هو يعلم أنه عندما اتخذ قراره في التقاعد المبكر كان صائباً في قراره، ولكن لم يكن يعلم كيف؟ هو يحس في أعماقه أن لديه طاقات وهوايات كثيرة لم يقم بإشباعها طوال حياته، ظروف العمل المرهقة القاسية وتربية أفراد أسرته الكثيرة العدد، وبذل الجهد الكبير لاستقرار عائلته وتوفير المسكن والمأكل والتعليم لهم قد أخذ منه كل مأخذ، فلم تحظ روحه بأية فرصة سانحة لعمل ما كان يحبه ويهواه. فكر إذا ماذا يعمل في كل هذه الساعات الطوال المهدورة من عمره المتبقي؟ كثيرا ما كان يخجل من نفسه، عندما يتلاقى مع أحد الموظفين من زملائه أو اصدقائه من الحي، عندما يسألونه ماذا يعمل بعد تقاعده؟ وكان يجيبهم بمرح مفتعل وهو في حالة حرج:
ــ لا شيء البتة، ولماذا أعمل وأنا الذي طلبت من تلقاء نفسي التقاعد المبكر، لو كنت راغبا في مواصلة العمل لمكثت في عملي وكان أيسر لي وأفضل من أن أبحث عن عمل آخر جديد، والصراحة أنا أخذت عهدا على نفسي أني لن آخذ عملاً وهناك شباب عاطل أحوج مني إليه.
في البيت بدأ يحس بالضيق وشعر بأن زوجته تتأفف من كثرة وقوفه معها في المطبخ وأحاديثه الممله التي لا تخلو من العتاب والملاحظات والاخطاء والتنبيهات والتحذيرات، إنها لم تعتد طيلة حياتها معه هذه الطريقة من المعاملة، الى أن وصل الأمر إلى حد الصدام بينهما بعد تلك العشرة الطويلة الهانئة التي زادت على الثلاثين عاماً.
انسحب تدريجيا وانكفأ على نفسه لأيام لا يكلم أحداً إلا اضطراراً، يحاول أن يبتعد عن الإنسانة الوحيدة التي تبقت له بعد أن هجر بيئة العمل والمجالس وطرقات الحي، حتى لا يؤذي مشاعرها المضطربة هي الأخرى من التغير المفاجئ في طبيعة حياتها بعد مكوثه الطويل المضجر معها في البيت.
شهور عصيبة مرت عليه وهو ضائع، شقاؤه ويأسه كادا يفتكان به ويهلكان بقية صحته، ويوهنان جسده الذي بدأ يشيخ ويهرم سريعاً بعد تلك القوة والطاقة التي كان يتمتع بهما إلى آخر يوم في عمله، هل هو يدمر نفسه بهذه الطريقة الغريبة والحياة السلبية التي يعيشها من غير أن يدرك ذلك، سأل نفسه ذاك السؤال المحير في ذاته بتوتر وانفعال، لا بد أن اعمل شيئا أنقذ به روحي اليائسة المعذبة، قالها مراراً وهو يردد في نفسه المهزومة:
ــ يحب أن أبحث عن تلك الحماسة الشديدة التي ضربت وجداني ذات يوم مشرق بالتحدي، والتي من أجلها أقدمت مجازفاً على طلب التقاعد المبكر، أنني كنت متفائلاً جداً بأني سأحيا حياة مزدهرة بالجديد والابتكار والانتاج، كنت أحلم بأني سوف أقوم بإنجازات كثيرة كنت أحبها في صغري وشبابي. لا بد من حل سريع لأعيش حياة طبيعية بعد التقاعد.
توجه مسرعاً إلى حوش منزله، لأول مرة نظر في التربة الصفراء ملياً، تلك التي تقع في منتصف الحوش والتي كانت بمثابة حديقة واسعة مهملة، لم يزرع فيها شيئاً منذ سنين طويلة غير تلك الأغصان الصغيرة من شجرة المشموم التي أهداها إياه صديقه المزارع إبراهيم البلادي.
نظر إلى الأغصان بعمق ودقق بين وريقاتها القليلة، فعجب في ذاته عندما وجد أنها أنبتت براعم كثيرة ومدت فروعاً جديدة وأرواقاً خضراء يانعة تنبعث منها الرائحة الزكية كالتي كان تفوح بقوة عندما يجلبها طرية أول مرة صديقه إبراهيم في مكتبه، وهي تزكم أنفه وتنعش روحه.
ركض إلى الكراج وسارع الى إحضار الشيول والصخين وضرب بهما الأرض اليابسة ضربات متتالية والعرق ينزف منه، كان سعيداً بالتعب والإرهاق اللذين شعر بهما لأول مرة بعد تقاعده، لينتج حديقة كبيرة مليئة بالثمار والزهور بعد توالي الأيام الجميلة، أذهلت كل من شاهدها.