قصة قصيرة - نوال الجبر
لم أكن أعرف ماذا يخبئ لي هذا المساء، فمساءات باريس كانت مختلفة منذ الساعات الأولى في الصباح الذي قضيته في مطار شارل ديغول. خرجت أسير قرابة الساعة في سيارة سوداء يقودها سائق أفريقي كان مشغولاً جداً بما يبث في الراديو من أخبار فرنسية، وكان حانقاً جداً كلما واجهنا زحاماً.
خالد الذي أعطاني سره الأخير وشكرني بطريقة لطيفة مما جعلني أبكي ليلة كاملة وأشعر بقسوة في قلبي لا تلين، لم أدرك سر تلك القسوة قبل أن أعرف أنني فهمتها مؤخرا، الحياة القدرية تقودنا لطريق أحيانا لا نعرف كيف نخرج منه، كنت أتذكره منذ طفولتي حينما فاجأني بتورتة النجاح، وكنت أجمل طفلة سعيدة ذلك اليوم لأنني حصلت على أكبر (تورتة) وأجملها شكلا، رأيت ذلك في طفولتي في وجوه صديقاتي ومن تمنين أن يرافقنني بسبب تلك التورتة الجميلة.
خالد الذي حملني بذراعيه منذ أن كان عمري 7 أعوام، كان أخاً كبيراً بالنسبة لي، وكان بداخلنا اعتزاز مشترك لهذه الأخوة العظيمة التي تولدت بيننا، أصيب بمرض السرطان وتوقف قلبه بعد أن بدأ جسده يذبل، لكن عاد قلبه للحياة، اطمأننت في تلك اللحظة أن ربي وهبه الحياة مرة أخرى، وأنه بالإمكان أن يعيش ويتشافى، آمنت على روحه بالدعوات، وغادرت مطار الرياض لباريس.
كانت باريس ساكنة جدا أشبه بليلة قدرية، منذ وصولي لفندق (جراند دو باليس رويال) حتى رؤيتي لتلك التماثيل داخل الفندق مما جعلني أتوقف عندها للحظات. المكان يجعلني أستشعر الجمال الذي يحيطني رغم أني مشدوهة بالغموض. حين يرحل المرء عن من يحب لا يعرف أو يتظاهر بعدم الشعور، بما يخبئه القدر العاتي كإعصار غامض ينفجر في أي لحظة وزمان ومكان.
أبحث عبر الأثير عن أصواتهم وأسأل بإلحاح غريب هل مازال بخير؟ تأتيني الإجابة طمأنينة، والقلب لا يشعر بها أبدا، عاد خالد، منذ آخر رحلة سافرناها سويا نحو بلاد خليجية؛ وأنا أسأله عن أهدافه؛ لأن العام أوشك على النهاية، وهناك عام قادم، فتح لي أجندته وأخبرني أنه يحلم بأن يمتلك بيتا وهذا كل شيء!! أما أنا بدأت أسرد عليه أمنياتي الجديدة والسبل لتحقيقها والإمكانات، طوى الطريق أمنياتنا التي كنا نصلي بها أن تتحقق وأودعناها الإله.
تركت الفندق باتجاه متحف اللوفر الذي كان على بعد خطوات من الفندق الذي أسكن به، كان كل شيء في باريس معتقا وغاية في القدم، هي مدينة تعبر عن نفسها تاريخيا بكمية التماثيل والمتاحف، واعتزازها بعمر مبانيها، وصولا لذلك الطريق كمية لا يستهان بها من البشر المختلطون، الذين يشربون وينظرون بذهول، في كل المقاهي المنتشرة في كل الأنحاء.
أمضيت ذاك النهار وقتاً لا بأس به في حدائق Tuileries كانت جميلة بما يكفي لوصفها حدائق للعشق، تفوح بعناق العشاق وقبلاتهم التي لم تكن خجولة، إلى الأصدقاء من كبار السن والذين يمارسون هوايتهم أمامي بكرة حديدية وأهداف تصيب وتخطئ الهدف، وقد عرفت بلعبة "بيتانك" وبعضهم الآخر يجلس على مقاعد جديدة خضراء اللون يدخن السجائر ويشجع، أما أنا فقد كنت في زاوية التأمل ألتحف صمتي، عدت للقراءة، التماثيل الكبيرة في كل مكان، النوافير العذبة، ذاك النهار كان طويلاً جداً، لم تكن مساحة النهاية تود أن تتكسر وتتلاشى لتختفي؛ عدا أني أردت أن أذهب سيرا على الأقدام لوجة بعيدة جدا، كنت أعبر الشوارع التي بدت ساكنة فعلاً، والأوراق الصفراء التي ملئت بها جعلتني أبصر على نافذة القدر شيئاً ما ينتظرني! هل كان السفر يوما شكلا من أشكال الهروب؟ أو هو وجهة للبحث عن السلام والهدوء في بقعة بشرية أخرى تجهلك وتجهل جذورك وتاريخك واسمك وكل ما يمت لك بصلة؟ أم هي نقطة وضعت في خضم البحث عن المتاهة واللامكان.
حينما تسير أنثى عربية برفقة زوجها في شوارع باريس على سجادة من الورق الأصفر الشاحب، الذي غيبه الموت فتكسر تحت وقع خطوات قدمي التي تطأها، وتلك الأشجار الساكنة تزفني لنهاية لا أحاول أن أختارها في حياتي، عدا أن السحب جاءت مندفعة لتغير لون المكان، باريس مدينة محدقة يقال إن أول ما تراه في وجوه ساكنيها علامات التحديق تلك في العدم الماثل في تفاصيل كل المخلوقات، إحداها البشرية.
مثل كائن عابر لا يفكر في شيء توشك اللحظة على الانفراط على عجل وتكشف باريس وجهها الحزين لي، لحظة اجتمع فيها الليل والنهار كإشراقة مبهرة، أتذكر حين غمست يدي في ماء عذب بارد جداً بعد الغداء في مطعم على الطريق، لم أعد قادرة على سحب يدي من الماء كأنما أشعر للوهلة الأولى بأن ماء في غاية البرودة يتساقط على يدي بهذا الشكل، وكأنها شذرات ثلج بصعوبة انتزعت كفي.
خرجت وأنا متعبة، أمضينا كثيراً في المشي على الأقدام بعد أن استسلمت للوقوف في محطة مترو George V Metro Station تجاوزت أكثر من محطة، توقف المترو حتى وصلت لوجهتي الأخيرة ثم عدت للسير على الأقدام، أنهكني التعب حتى أغشى الليل كل الطرقات والحدائق، لا شيء يمضي في هذه الحياة عدا أعمارنا والأقدار التي كتبت على جبيننا.
أبصرت ضوءا يعبر الظلام، تذكرت ليلة زفافي، وقبلها بأشهر قليلة حينما كان خالد معي أنا وأختي لاختيار فستان زفافي الأبيض، كان معي دائما منذ طفولتي وحتى زهرة شبابي، عاد الضوء يتوهج، ذلك هو الضوء الوحيد الذي توقف؛ أخذنا لآخر وجهة في باريس، إلى الشانزليزيه، أو كما أسميه أنا اختصارا كغيري الشانز، الطرقات هناك سريعة خافتة، عدا برج إيفل كان يلتمع ويبعثر وهجه في العيون، توقفت السيارة فتح لي السائق الباب وخرجت، بدأت أسير وأنظر للتجمعات البشرية، مجموعة من الشباب من المغرب كانوا يقدمون استعراضاً (شو) أمام مرأى السائحين، ثم ينادون بأسماء الدول العربية التي تدفع مبالغ مالية أكثر، كنوع من المزايدة.
أحس زوجي كما أحسست بداخلي أن الموضوع نوع من التسول المقبول في مجتمعات كهذه، ابتعدنا عن هذه الأجواء التي لم ترقنا، وانفردنا على طاولة صغيرة في مطعم إيطالي لأتذوق طبقي المفضل من السباغيتي، في تلك اللحظة وعند العاشرة مساء شيء ما حرك الساكن داخلي، فتحت حقيبتي الصغيرة أخذت هاتفي المحمول عدت لكتابة رسالة مفادها.. طمنيني عن خالد؟
لم يكن في جهازي أي رد لكن تلك اللحظة شيء ما داخلي دفعني للكتابة، لماذا هذا الوقت بالذات لأسال عن خالد؟ ما الذي تعنيه الساعة العاشرة مساء هناك في بلدي؟ زوجي أخبرني أن هناك اتصال من أحد أفراد عائلتي، مما دفعني للخوف والسؤال بإلحاح لماذا؟ حاولت محاصرته لكنه لم يعطني أي إجابة عدا إنه سؤال عابر عن جهاز إلكتروني خاص بالأفلام، ولأني أعرف اهتمامات زوجي بالتقنية؛ بررت له. لولا تلك اللمعة في عينيه وهو يحاول أن يأكل مجبراً ليمثل أمامي الدور كاملا، وليدفعني أن اتناول عشائي دونما خوف أو قلق. لم أستطع الأكل حقيقية بما يكفي، كان مجرد سد فراغ الجوع الذي بدأت أشعر به منذ أن كنت في محطة المترو الأخيرة، عدنا للفندق سريعاً بناء على طلب زوجي، وحين عدنا أخبرني أن حالة خالد الصحية مقلقة وأمضى يدعو له، لكنني أخبرته على الفور بأنني على يقين أن خالداً سيعيش ويشفى لأن ربي أعاد لقلبه النبض ثانية بعد أن توقف قلبه عن النبض، لكنه أخبرني أنه مريض جداً وحالته الصحية متأزمة، أكرر عليه بالتأكيد أنني ذهبت لباريس لأني متأكدة أنه لن يموت.
لأني متفائلة، لأني لا أريد له أن يموت... نظر إلي وأخبرني: لكن خالداً مات فعلاً!!
باندهاش وأمام هذه الحقيقة الوحيدة الصادمة قلت له:
- منذ متى؟!
- منذ الساعة العاشرة، ذهب إلى جوار ربه.
خالد الذي كنت أشجعه وأطلب منه أن يكون قوياً ويتمسك بالحياة ويتغلب على المرض، أعادني لتلك الحظة في موت أبي، كنت أجثو على ركبتي أمام جثة أبي وأمسك بيده وأصرخ في أذني أبي وكنت متأكدة أنه يسمعني: "لا تدعني"، مما دفع به للخروج خارج منزلنا. ومنذ تلك اللحظة كان يناديني بابنتي رغم أنه مازال في أواخر الأربعين من عمره، أطلقت روحه للسماء تلك الليلة، وعند العاشرة من مساء ذلك اليوم، وإذ يشرف الليل على النهاية ويلوح خيط فجر الموت المخلص، أبحث عن طريقة للعودة، لم أنم تلك الليلة، كانت ليلة عزاء طويلة في باريس، التي اخترت أن أتركها بعد أن أمضيت يوماً واحداً وليلة عزاء، لأعود لوطني الذي أصبح فراغاً كبيراً بدون خالد.
لا شيء يمضي في هذا العالم... الشيء الوحيد الجدير بالتبجيل هو مضي الكائن الحي إلى الاضمحلال الأخير. كل شيء آخر يبدو غير حقيقي، أمام هذه الحقيقة الصادمة.
قاصة سعودية
لم أكن أعرف ماذا يخبئ لي هذا المساء، فمساءات باريس كانت مختلفة منذ الساعات الأولى في الصباح الذي قضيته في مطار شارل ديغول. خرجت أسير قرابة الساعة في سيارة سوداء يقودها سائق أفريقي كان مشغولاً جداً بما يبث في الراديو من أخبار فرنسية، وكان حانقاً جداً كلما واجهنا زحاماً.
خالد الذي أعطاني سره الأخير وشكرني بطريقة لطيفة مما جعلني أبكي ليلة كاملة وأشعر بقسوة في قلبي لا تلين، لم أدرك سر تلك القسوة قبل أن أعرف أنني فهمتها مؤخرا، الحياة القدرية تقودنا لطريق أحيانا لا نعرف كيف نخرج منه، كنت أتذكره منذ طفولتي حينما فاجأني بتورتة النجاح، وكنت أجمل طفلة سعيدة ذلك اليوم لأنني حصلت على أكبر (تورتة) وأجملها شكلا، رأيت ذلك في طفولتي في وجوه صديقاتي ومن تمنين أن يرافقنني بسبب تلك التورتة الجميلة.
خالد الذي حملني بذراعيه منذ أن كان عمري 7 أعوام، كان أخاً كبيراً بالنسبة لي، وكان بداخلنا اعتزاز مشترك لهذه الأخوة العظيمة التي تولدت بيننا، أصيب بمرض السرطان وتوقف قلبه بعد أن بدأ جسده يذبل، لكن عاد قلبه للحياة، اطمأننت في تلك اللحظة أن ربي وهبه الحياة مرة أخرى، وأنه بالإمكان أن يعيش ويتشافى، آمنت على روحه بالدعوات، وغادرت مطار الرياض لباريس.
كانت باريس ساكنة جدا أشبه بليلة قدرية، منذ وصولي لفندق (جراند دو باليس رويال) حتى رؤيتي لتلك التماثيل داخل الفندق مما جعلني أتوقف عندها للحظات. المكان يجعلني أستشعر الجمال الذي يحيطني رغم أني مشدوهة بالغموض. حين يرحل المرء عن من يحب لا يعرف أو يتظاهر بعدم الشعور، بما يخبئه القدر العاتي كإعصار غامض ينفجر في أي لحظة وزمان ومكان.
أبحث عبر الأثير عن أصواتهم وأسأل بإلحاح غريب هل مازال بخير؟ تأتيني الإجابة طمأنينة، والقلب لا يشعر بها أبدا، عاد خالد، منذ آخر رحلة سافرناها سويا نحو بلاد خليجية؛ وأنا أسأله عن أهدافه؛ لأن العام أوشك على النهاية، وهناك عام قادم، فتح لي أجندته وأخبرني أنه يحلم بأن يمتلك بيتا وهذا كل شيء!! أما أنا بدأت أسرد عليه أمنياتي الجديدة والسبل لتحقيقها والإمكانات، طوى الطريق أمنياتنا التي كنا نصلي بها أن تتحقق وأودعناها الإله.
تركت الفندق باتجاه متحف اللوفر الذي كان على بعد خطوات من الفندق الذي أسكن به، كان كل شيء في باريس معتقا وغاية في القدم، هي مدينة تعبر عن نفسها تاريخيا بكمية التماثيل والمتاحف، واعتزازها بعمر مبانيها، وصولا لذلك الطريق كمية لا يستهان بها من البشر المختلطون، الذين يشربون وينظرون بذهول، في كل المقاهي المنتشرة في كل الأنحاء.
أمضيت ذاك النهار وقتاً لا بأس به في حدائق Tuileries كانت جميلة بما يكفي لوصفها حدائق للعشق، تفوح بعناق العشاق وقبلاتهم التي لم تكن خجولة، إلى الأصدقاء من كبار السن والذين يمارسون هوايتهم أمامي بكرة حديدية وأهداف تصيب وتخطئ الهدف، وقد عرفت بلعبة "بيتانك" وبعضهم الآخر يجلس على مقاعد جديدة خضراء اللون يدخن السجائر ويشجع، أما أنا فقد كنت في زاوية التأمل ألتحف صمتي، عدت للقراءة، التماثيل الكبيرة في كل مكان، النوافير العذبة، ذاك النهار كان طويلاً جداً، لم تكن مساحة النهاية تود أن تتكسر وتتلاشى لتختفي؛ عدا أني أردت أن أذهب سيرا على الأقدام لوجة بعيدة جدا، كنت أعبر الشوارع التي بدت ساكنة فعلاً، والأوراق الصفراء التي ملئت بها جعلتني أبصر على نافذة القدر شيئاً ما ينتظرني! هل كان السفر يوما شكلا من أشكال الهروب؟ أو هو وجهة للبحث عن السلام والهدوء في بقعة بشرية أخرى تجهلك وتجهل جذورك وتاريخك واسمك وكل ما يمت لك بصلة؟ أم هي نقطة وضعت في خضم البحث عن المتاهة واللامكان.
حينما تسير أنثى عربية برفقة زوجها في شوارع باريس على سجادة من الورق الأصفر الشاحب، الذي غيبه الموت فتكسر تحت وقع خطوات قدمي التي تطأها، وتلك الأشجار الساكنة تزفني لنهاية لا أحاول أن أختارها في حياتي، عدا أن السحب جاءت مندفعة لتغير لون المكان، باريس مدينة محدقة يقال إن أول ما تراه في وجوه ساكنيها علامات التحديق تلك في العدم الماثل في تفاصيل كل المخلوقات، إحداها البشرية.
مثل كائن عابر لا يفكر في شيء توشك اللحظة على الانفراط على عجل وتكشف باريس وجهها الحزين لي، لحظة اجتمع فيها الليل والنهار كإشراقة مبهرة، أتذكر حين غمست يدي في ماء عذب بارد جداً بعد الغداء في مطعم على الطريق، لم أعد قادرة على سحب يدي من الماء كأنما أشعر للوهلة الأولى بأن ماء في غاية البرودة يتساقط على يدي بهذا الشكل، وكأنها شذرات ثلج بصعوبة انتزعت كفي.
خرجت وأنا متعبة، أمضينا كثيراً في المشي على الأقدام بعد أن استسلمت للوقوف في محطة مترو George V Metro Station تجاوزت أكثر من محطة، توقف المترو حتى وصلت لوجهتي الأخيرة ثم عدت للسير على الأقدام، أنهكني التعب حتى أغشى الليل كل الطرقات والحدائق، لا شيء يمضي في هذه الحياة عدا أعمارنا والأقدار التي كتبت على جبيننا.
أبصرت ضوءا يعبر الظلام، تذكرت ليلة زفافي، وقبلها بأشهر قليلة حينما كان خالد معي أنا وأختي لاختيار فستان زفافي الأبيض، كان معي دائما منذ طفولتي وحتى زهرة شبابي، عاد الضوء يتوهج، ذلك هو الضوء الوحيد الذي توقف؛ أخذنا لآخر وجهة في باريس، إلى الشانزليزيه، أو كما أسميه أنا اختصارا كغيري الشانز، الطرقات هناك سريعة خافتة، عدا برج إيفل كان يلتمع ويبعثر وهجه في العيون، توقفت السيارة فتح لي السائق الباب وخرجت، بدأت أسير وأنظر للتجمعات البشرية، مجموعة من الشباب من المغرب كانوا يقدمون استعراضاً (شو) أمام مرأى السائحين، ثم ينادون بأسماء الدول العربية التي تدفع مبالغ مالية أكثر، كنوع من المزايدة.
أحس زوجي كما أحسست بداخلي أن الموضوع نوع من التسول المقبول في مجتمعات كهذه، ابتعدنا عن هذه الأجواء التي لم ترقنا، وانفردنا على طاولة صغيرة في مطعم إيطالي لأتذوق طبقي المفضل من السباغيتي، في تلك اللحظة وعند العاشرة مساء شيء ما حرك الساكن داخلي، فتحت حقيبتي الصغيرة أخذت هاتفي المحمول عدت لكتابة رسالة مفادها.. طمنيني عن خالد؟
لم يكن في جهازي أي رد لكن تلك اللحظة شيء ما داخلي دفعني للكتابة، لماذا هذا الوقت بالذات لأسال عن خالد؟ ما الذي تعنيه الساعة العاشرة مساء هناك في بلدي؟ زوجي أخبرني أن هناك اتصال من أحد أفراد عائلتي، مما دفعني للخوف والسؤال بإلحاح لماذا؟ حاولت محاصرته لكنه لم يعطني أي إجابة عدا إنه سؤال عابر عن جهاز إلكتروني خاص بالأفلام، ولأني أعرف اهتمامات زوجي بالتقنية؛ بررت له. لولا تلك اللمعة في عينيه وهو يحاول أن يأكل مجبراً ليمثل أمامي الدور كاملا، وليدفعني أن اتناول عشائي دونما خوف أو قلق. لم أستطع الأكل حقيقية بما يكفي، كان مجرد سد فراغ الجوع الذي بدأت أشعر به منذ أن كنت في محطة المترو الأخيرة، عدنا للفندق سريعاً بناء على طلب زوجي، وحين عدنا أخبرني أن حالة خالد الصحية مقلقة وأمضى يدعو له، لكنني أخبرته على الفور بأنني على يقين أن خالداً سيعيش ويشفى لأن ربي أعاد لقلبه النبض ثانية بعد أن توقف قلبه عن النبض، لكنه أخبرني أنه مريض جداً وحالته الصحية متأزمة، أكرر عليه بالتأكيد أنني ذهبت لباريس لأني متأكدة أنه لن يموت.
لأني متفائلة، لأني لا أريد له أن يموت... نظر إلي وأخبرني: لكن خالداً مات فعلاً!!
باندهاش وأمام هذه الحقيقة الوحيدة الصادمة قلت له:
- منذ متى؟!
- منذ الساعة العاشرة، ذهب إلى جوار ربه.
خالد الذي كنت أشجعه وأطلب منه أن يكون قوياً ويتمسك بالحياة ويتغلب على المرض، أعادني لتلك الحظة في موت أبي، كنت أجثو على ركبتي أمام جثة أبي وأمسك بيده وأصرخ في أذني أبي وكنت متأكدة أنه يسمعني: "لا تدعني"، مما دفع به للخروج خارج منزلنا. ومنذ تلك اللحظة كان يناديني بابنتي رغم أنه مازال في أواخر الأربعين من عمره، أطلقت روحه للسماء تلك الليلة، وعند العاشرة من مساء ذلك اليوم، وإذ يشرف الليل على النهاية ويلوح خيط فجر الموت المخلص، أبحث عن طريقة للعودة، لم أنم تلك الليلة، كانت ليلة عزاء طويلة في باريس، التي اخترت أن أتركها بعد أن أمضيت يوماً واحداً وليلة عزاء، لأعود لوطني الذي أصبح فراغاً كبيراً بدون خالد.
لا شيء يمضي في هذا العالم... الشيء الوحيد الجدير بالتبجيل هو مضي الكائن الحي إلى الاضمحلال الأخير. كل شيء آخر يبدو غير حقيقي، أمام هذه الحقيقة الصادمة.
قاصة سعودية