د. محمد جابر الأنصاري

من الغريب أننا لا نجد في التاريخ الإسلامي قيام مصلح دنيوي يرجع إلى العقل ليطالب بإصلاح الفاسد والعدالة في توزيع الثروة، وذلك لأن الرأي العام في تلك العصور كان متأثرا بالدين تأثراً كبيراً، فهو لا يخضع لدولة إلا إذا مزجت بالدين، وهذا ما لاحظه ابن خلدون في العرب، إذ قال: (إنهم لا يخضعون ولا يقادون إلا لرسالة دينية أو نحوها)، وكان كالعرب الأمم الأخرى التي خضعت لحكمهم وآمنت بتقاليدهم).

وهذه الملاحظة يؤكدها المؤرخ برنارد لويس بالقول إن جميع الثورات في تاريخ الإسلام اصطبغت بالصيغة الدينية، وكانت ثورات باسم الإسلام، وضمن نطاقه، لا ضده، ولا بقصد الخروج عنه وحتى الخوارج عندما كفروا الجماعة كفروها باسم الإسلام لا بغيره.

تجديد ضمن الإطار العام

هذا يعني أن التجديد لابد أن يكون دينياً وضمن الإطار العام الشرعي للمعتقد الإسلامي، إذا كان المقصود إصلاح الإسلام لا نقضه أو رفضه، وحتى إذا أريد الفصل بين الجانبين الزمني والروحي في الإسلام، فلا بد من استخراج مبررات وأدلة من صميم المبادئ الإسلامية ذاتها لتحقيق ذلك، كما حاول أن يفعل، على نحو مصغر ومحدود، علي عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم لإثبات ما ذهب إليه من عدم وجود مستند عقيدي وشرعي لفكرة الخلافة.

وخلقت الرغبة في التجديد أو الإحياء أو الإصلاح في التراث الإسلامي فكرة أخرى، غير المهدوية، وهي الفكرة القائلة إن إماما مجددا يخرج في مطلع كل قرن لإحياء الدين استنادا إلى حديث رواه أبو هريرة عن النبي (ص) أنه قال: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). والفكرة في ذاتها وجيهة لأن التشريع دائما يتغير بتغير الزمان والمكان، وفي الفقه أمثلة كثيرة من هذا القبيل.

وهذه الفكرة أقرب إلى مفهوم التجديد الديني بمعناه الإصلاحي العقلي ودافعه الإرادي الإنساني، أو كما يقول أحمد أمين: والفرق بين الدعوة إلى التجديد والدعوة إلى المهدية أن الأولى ترتكز على العقل وعلى تجارب الحياة وعلى الواقع، أما الدعوة الثانية فترتكز على عقيدة دينية فقط بإمام منتظر، وأن السلطة السماوية هي التي تقربه وهي التي تؤيده.

تأثير فكرة الإحياء المئوي

ويبدو أن فكرة التجديد أو الإحياء المئوي فكرة قوية التأثير ومستمرة في التقاليد الفكرية الإسلامية، فقد أخذ الفقهاء والمؤرخون يبحثون في كل مائة سنة عمن يصلح أن يكون مجددا، قالوا إنه على رأس المائة الأولى كان عمر بن عبدالعزيز، والثانية الشافعي والثالثة ابن سريح أو الأشعري ...الخ.

وكان لهذه الفكرة أبلغ الأثر في تحويل الإمام الغزالي ـ في رأس المائة الخامسة ـ من حياة العزلة والانقطاع إلى معترك الدعوة والعمل، وإشارته إليها في (المنقذ من الضلال) تكشف مدى ترسخها في وعيه الذاتي وكيف تملكه الشعور تحت تأثيرها بأنه الإمام المجدد في مائته وعصره.

وفي العصر الحديث سرت الفكرة القائلة إن محمد عبده قد جدد في رأس المائة الماضية، محييا بذلك تراث التجديد والإصلاح في الإسلام.

غير أنه تجب الإضافة أيضا بأنه إذا كان الوعي الفكري ـ الديني في الإسلام لم يتنبه لفكرة التقدم الإنساني الحضاري بمضمونها العصري، فليس معنى ذلك أن الحضارة الإسلامية قد خلت منها واقعا وممارسة.

فالتقدم الحضاري الذي أحدثه الإسلام في القرون الأربعة الأولى ـ التي تصادفت مع عصر السيادة العربية ـ ظاهرة ثابتة ومؤكدة.

ومشاركة المسلم في (عمران) الأرض التي استخلفه الله عليها تحققت بمقدار، والثورات السياسية التي حفل بها تاريخه ـ وأهمها الثورة العباسية السنية المتحالفة بداية ومنطلقا مع شيعة آل البيت، والتي أحدثت وقادت أكبر نهضة حضارية في تاريخ الإسلام ـ دليل على رغبة المسلمين في تغيير أوضاعهم وتحسينها بإرادتهم، كما أن ظهور المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة من الدلائل الهامة على إمكانية حدوث تجديد فكري في الإسلام.

أي أن شهادة التاريخ والممارسة الحضارية تثبت وجود دافع (التقدم) في الإسلام، وإن لم يظهر (الوعي) بهذه الفكرة في صلب الإدراك الديني العام أو لدى المفكرين الإسلاميين القدماء من حيث هي فكرة ملموسة واضحة.

مفهوم التقدم ظاهرة حديثة

أيا كان الأمر فالوعي بمفهوم التقدم ظاهرة حديثة من معطيات التطور الأوروبي في قرونه الأخيرة، وليس الجائز إقحامها في فكر الأديان إلا من زاوية الإصلاح الديني الحديث ومضامينه وشروطه حيث يتحتم التمييز بين مفهوم للإحياء الديني يعد للنص النقلي ويرفض فكرة التقدم والتطور، وبين مفهوم للتجديد الديني أو للثورة الدينية ـ من داخل الإطار الديني ذاته ـ يستوعب النزعة التطورية ويحاول الجمع بينها وبين الأصول، أي بمعنى آخر، يحاول التوفيق بين ظاهرة التطور وظاهرة الثبات في ديمومة حياة الأمة والحضارة بتركيز محور ثابت يسمح بدوران التغيرات ويتيح تحركها الدينامي، موفر لها القاعدة التي تمدها بالإتساق والإتزان.

وهذا يجعلنا ندقق النظر لنرى كيف يتداخل ويتطابق مفهوم (التجديد والإصلاح)، ومفهوم (التوفيق) في الإسلام، وكيف وقفت حركة الرجعة إلى السلف ـ على اختلاف تياراتها وعصورها ـ ضد منزع التوفيق لأنه يرتبط بالتجديد، كيف كان التوفيقيون في مختلف العصور أنصارا لمبدأ الاقتباس الحضاري، ورموزا لفترات التغيير المتضمن إطلاقا لطاقات العقل.

فطالما أن ظهور تيار عقلي مستقل تماما عن النظرة الدينية أو مخالف لها أمر غير وارد في المفهوم الإسلامي الشمولي الجامع المانع، فإن الأفكار التجديدية أمامها سبيل واحد للدخول في التقليد الفكري الإسلامي هو سبيل التكيف والتوافق مع أصول الإسلام، بعد إعادة تفسير هذه الأصول، بإحدى الطرق التأويلية والاجتهادية التي يحتملها ذلك التقليد.

ومما يؤكد كون التوفيق سبيل التجديد، إن الأفكار التجديدية تتعرض للمقاومة وترفض عندما يتم طرحها بصورتها الأصلية غير الإسلامية أو المناقضة للإسلام، بينما تحظى أفكار أكثر تجديدا وجرأة منها بالقبول عندما تعاد صياغتها صياغة إسلامية وتوضع في معادلة المركب التوفيقي.

غير أن هذه الإصلاحية التوفيقية ـ بسبب التوتر الخفي الفاعل في باطنها بين عنصريها كما تبين ـ ما أن تشعر بازدياد قوة التيارات العقلية الوافدة وتحس بضغطها الذي يهدد معادلة التوازن ـ اجتماعيا وفكريا ـ حتى يتحول فيها المؤشر ـ بغريزة الدفاع عن الذات ـ إلى ناحية المحافظة والحذر، الأمر الذي يؤدي إلى تضييق مفهومها للإصلاح والتجديد، كي لا تتسرب إلى مركبها الدقيق نسبة أكبر من عناصر النظر العقلي فتخل به.. (الفكر العربي وصراع الأضداد د. محمد جابر الأنصاري).