جعفر الديري
يشهد المنهج العرفاني انصراف عدد من الباحثين اللغويين العرب، بل أن منهم من ناصبه العداء، إما جهلاً به أو تجاهلاً له من منطلقات بنيوية أو تراثية على حد سواء.
ويتجلى عسر دراسة المنهج العرفاني في أمور كثيرة منها قلة معارفنا عن الجانب الذهني، تنضاف إلى ذلك حداثة المنهج العرفاني في منشئه الغربي "إذ لم يتجاوز العقود الأربعة" وفي تشتت التلقي العربي له، وعدم التمكن من مفرداته وعدم التنسيق بين الباحثين المهتمين حتى في ترجمة مفرداته "التي تتفاوت الاجتهادات في شأنها تفاوتاً" وبخاصة في عدم بلوغ التلقي العربي لهذا المنهج مرحلة الإبداع فيه وتأصيله.
تعريف بمفاهيم المقاربة العرفانية
ذلك ما يؤكد عليه د. صابر الحباشة، محرر كتاب "دراسات في اللسانيات العرفانية الذهن واللغة والواقع" الصادر حديثا عن مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، لافتاً إلى الهدف من الكتاب وهو تعريف القارئ العربي المهتم ببعض المعارف والمفاهيم وأدوات التحليل، التي تستعملها المقاربة العرفانية، إلى تسويغ النظر فيما تطرحه تلك المقاربة على اللغة العربية من إشكاليات التنظير والتطبيق، في المقامات العلمية والتعليمية، مثلما يهدف إلى إزالة التخوف والتوجس من هذه المقاربة وتجاو الإشكاليات الشكلية "من قبل الاختلافات الاصطلاحية بين الباحثين العرب: اللسانيات العرفانية، الإدراكية، العرفنة، التعرف، المعرفية... "، لكي نصل إلى ترسيخ القول في هذه المقاربة تمهيداً لبلوغ وضع لبنات إنتاج المعرفة في هذا المجال.
وبحسب المحرر، فإن القاريء سيجد في هذا الكتاب فصولاً متكاملة ألفتها مجموعة من الباحثين المتخصصين الذين يشتغلون على مشروعات بحثية تعتمد المقاربة العرفانية وتحاول استثمار جوانب منها في دراسة اللغة العربية.
فصول تبدأ من الذهن مروراً باللغة
وقد ارتأى أن يتخذ ترتيب الفصول طابعاً منهجيا يبدأ من الذهن ويمر باللغة "نحوا ودلالة" ليصل إلى الواقع في المقام التربوي والمنظور التداولي. لذا أقترح على القارئ المهتم باقة من البحوث التي حاول فيها مؤلفوها اقتناص مقترحات الاتجاه العرفاني النظرية ورصد آفاقه التطبيقية. إذ تكاد الدراسات اللسانية منذ بداية القرن العشرين تتفق على اعتماد مستويات "صوتية وصرفية وتركيبية ودلالية، ثم تداولية" في تحليل البيانات اللغوية أصواتاً ووحدات صرفية وتركيبية ودلالية وتداولية. وعلى الرغم من اختلاف المدارس اللسانية في إيلاء فضل عناية بمستوى منها على سائر المستويات، أو في جعل أحد المستويات متحكما في غيره، فإن عموم الدارسين قد ارتضوا أن تعالج اللغة انطلاقاً من هذه المستويات.
ولما كان الاتجاه العرفاني "المعرفي، الإدراكي" من الاتجاهات اللسانية، التي ظهرت بعد رسوخ مستويات التحليل المذكورة، فقد اتجه الباحثون العرفانيون إلى استثمار هذا الاتجاه في دراسة تلك المستويات، ووظفوا ما يتيحه من أدوات في معالجة مباحثها، مع تحفظهم على القسمة المذكورة لتلك المستويات اللسانية...
معالجة للجوانب التركيبة
ويضم هذا الكتاب الجماعي فصولاً تطرقت إلى معالجة الاتجاه العرفاني للجوانب التركيبة والدلالية والتداولية في اللغة والذهن. ويشكل الفصل الأول الذي أنشأه الباحث د. عبد الرحمن محمد طعمة تمهيدا يضع سائر الفصول في إطارها، لا سيما أن الدراسات العرفانية الجادة لا تزال قليلة باللسان العربي، فالحاجة لا تزال ماسة للتعريف بهذا الاتجاه في أهم مقارباته وطرائقه ومصطلحاته وأهدافه. كما قدم هذا الفصل مداخل علمية بينية ذات صلة بالنظرية اللسانية العرفانية المعاصرة، وقد وقف الباحث على أطروحة تقرير "سلون" الممثل لبزوغ العلم العرفاني عموماً في حقل فلسفة العلوم الغربية، مثلما عرض بعض مرتكزات بنائية المعجم الذهني، وانتهى الباحث إلى فرضية "وهم المعرفة" التي تمثل – من وجهة نظره- مدخلاً جديداً منفتحاً على علوم أخرى تبحث في الظاهرة اللسانية الإنسانية وتعالقها مع مباحث الكون.
تحليل لملامح الأبنية الذهنية
أما الفصل الثاني فقد عنيت فيه الباحثة د. عفاف موقو بتحليل ملامح من الأبنية الذهنية للفضاء في النحو العربي؛ إذ اقترحت قراءة لإشكالية مقولة الظروف في تراثنا النحو العربي، وذلك اعتماداً على نماذج من المصنفات النحوية القديمة. وأجرت دراستها على طريقة تمثيل اللغة للفضاء من خلال الكشف عن الأبنية الناشئة عن تعيين الصورة على أساس خلفية مفردة. وانتهت الدراسة إلى الإقرار بأن ظروف المكان عناصر نحوية تؤدي دوراً مركزياً في بنينة المقولة التصورية للفضاء. ومرد ذلك أنها تحدد الأبنية الذهنية الممثلة للفضاء. من خلال الاختيار النظامي لبعض مظاهر مشهد فضائي معين وترشيحاً لمثيل المشهد الفضائي الكلي دون سائر مظاهره المكونة له. مثلما حاولت الدراسة في جانبها التطبيقي الإحاطة بالتمييزات الفضائية الرئيسة الناشئة عن الظروف بما هي عناصر نحوية.
استعراض للإطار النظري
واهتم الباحث د. الحبيب المقدميني في الفصل الثالث باستعراض الإطار النظري العام للسانيات العرفانية، ثم تطرق إلى أهم المبادئ في دراسة الدلالة وخاصة مفهوم الموسوعية، واهتم بتقديم مقاربة طالمي في الدلالة اللغوية التي سعت إلى تبويب القدرات العرفانية الإدراكية وتنضيدها وفق تصور معين، يسهم إجرائيا في فهم الكثير من الظواهر الدلالية النحوية. مثلما عرض الباحث الخطاطات الذهنية المنبثقة من التجربة الجسدية بوصفها خلفيات تمكننا من فهم الدلالية اللغوية أو غيرها من الأنظمة العلامية.
تطبيقات في مجالات إنتاج الخطاب
وعالج الباحث د. عمر بن دحمان في الفصل الرابع تطبيق المنظور العرفاني في مجالات تتصل بإنتاج الخطاب وتلقيه في المقام التربوي، واهتم بإحدى الآليات والاستراتيجيات الخطابية المعتمدة التي عدت أساسية ومركزية ولا غنى عنها في الفهم والإفهام والتواصل بشكل عام، ألا وهي التفكير التمثيلي أو القياسي في مظاهره المختلفة. وحاول الباحث إبراز أهمية تجلياته في اللغة والخطاب من منظور عرفاني وإسهامه المركزي في عملية بناء المعنى وتأويله في أثناء التواصل، وبخاصة بعد المكانة التي صارت تحظى بها ظاهرة الاستعارة بعد اكتشاف أهميتها ودورها المركزي في الأنشطة البشرية الحياتية اليومية. وقد رصدت، في هذا الإطار، بعض الأبحاث ذات المنطلق اللساني العرفاني الحضور الاستعاري والتمثيلي في المقام التربوي بوصفه من الأنشطة الإنسانية الخصبة التي تستخدم فيها استراتيجيات تواصلية وإبلاغية يوظفها المعلمون والتربويون من أجل إيصال الفكرة إلى المتعلمين الذين يطلب إليهم التفاعل مع ما يعرض عليهم سواء أكان ذلك داخل الصف أم عبر المناهج والمقررات التعليمية.
نظر في وجوه التهجين والمزج
ونظر الباحث د. صابر الحباشة في الفصل الخامس في وجوه التهجين والمزج والتوليد الممكنة بين المنظورين العرفاني والتداولي. فإذا كان المعول عليه في الدراسات العرفانية هو تنشيط العمليات الذهنية في تنشيط الدلالة، فإن الدراسات التداولية "وهي رافد من روافد الاتجاه العرفاني" تركز على أهمية السياق في إنتاج المعنى. إذ تأتي المقاربة الهجينة لتبرز تأثير السياق المهم في بيئاتنا العرفانية، ومن ثم فلا مجال للفصل أو لعزل البيئة الذهنية عن التفاعلات الواقعية، إلا عزلاً أو فصلاً إجرائيين بهدف الدراسة والاختبار، فالأقوال والخطابات تحلل عرفانياً وتداولياً في ضرب من الاسترسال والتراكيب.
يشهد المنهج العرفاني انصراف عدد من الباحثين اللغويين العرب، بل أن منهم من ناصبه العداء، إما جهلاً به أو تجاهلاً له من منطلقات بنيوية أو تراثية على حد سواء.
ويتجلى عسر دراسة المنهج العرفاني في أمور كثيرة منها قلة معارفنا عن الجانب الذهني، تنضاف إلى ذلك حداثة المنهج العرفاني في منشئه الغربي "إذ لم يتجاوز العقود الأربعة" وفي تشتت التلقي العربي له، وعدم التمكن من مفرداته وعدم التنسيق بين الباحثين المهتمين حتى في ترجمة مفرداته "التي تتفاوت الاجتهادات في شأنها تفاوتاً" وبخاصة في عدم بلوغ التلقي العربي لهذا المنهج مرحلة الإبداع فيه وتأصيله.
تعريف بمفاهيم المقاربة العرفانية
ذلك ما يؤكد عليه د. صابر الحباشة، محرر كتاب "دراسات في اللسانيات العرفانية الذهن واللغة والواقع" الصادر حديثا عن مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، لافتاً إلى الهدف من الكتاب وهو تعريف القارئ العربي المهتم ببعض المعارف والمفاهيم وأدوات التحليل، التي تستعملها المقاربة العرفانية، إلى تسويغ النظر فيما تطرحه تلك المقاربة على اللغة العربية من إشكاليات التنظير والتطبيق، في المقامات العلمية والتعليمية، مثلما يهدف إلى إزالة التخوف والتوجس من هذه المقاربة وتجاو الإشكاليات الشكلية "من قبل الاختلافات الاصطلاحية بين الباحثين العرب: اللسانيات العرفانية، الإدراكية، العرفنة، التعرف، المعرفية... "، لكي نصل إلى ترسيخ القول في هذه المقاربة تمهيداً لبلوغ وضع لبنات إنتاج المعرفة في هذا المجال.
وبحسب المحرر، فإن القاريء سيجد في هذا الكتاب فصولاً متكاملة ألفتها مجموعة من الباحثين المتخصصين الذين يشتغلون على مشروعات بحثية تعتمد المقاربة العرفانية وتحاول استثمار جوانب منها في دراسة اللغة العربية.
فصول تبدأ من الذهن مروراً باللغة
وقد ارتأى أن يتخذ ترتيب الفصول طابعاً منهجيا يبدأ من الذهن ويمر باللغة "نحوا ودلالة" ليصل إلى الواقع في المقام التربوي والمنظور التداولي. لذا أقترح على القارئ المهتم باقة من البحوث التي حاول فيها مؤلفوها اقتناص مقترحات الاتجاه العرفاني النظرية ورصد آفاقه التطبيقية. إذ تكاد الدراسات اللسانية منذ بداية القرن العشرين تتفق على اعتماد مستويات "صوتية وصرفية وتركيبية ودلالية، ثم تداولية" في تحليل البيانات اللغوية أصواتاً ووحدات صرفية وتركيبية ودلالية وتداولية. وعلى الرغم من اختلاف المدارس اللسانية في إيلاء فضل عناية بمستوى منها على سائر المستويات، أو في جعل أحد المستويات متحكما في غيره، فإن عموم الدارسين قد ارتضوا أن تعالج اللغة انطلاقاً من هذه المستويات.
ولما كان الاتجاه العرفاني "المعرفي، الإدراكي" من الاتجاهات اللسانية، التي ظهرت بعد رسوخ مستويات التحليل المذكورة، فقد اتجه الباحثون العرفانيون إلى استثمار هذا الاتجاه في دراسة تلك المستويات، ووظفوا ما يتيحه من أدوات في معالجة مباحثها، مع تحفظهم على القسمة المذكورة لتلك المستويات اللسانية...
معالجة للجوانب التركيبة
ويضم هذا الكتاب الجماعي فصولاً تطرقت إلى معالجة الاتجاه العرفاني للجوانب التركيبة والدلالية والتداولية في اللغة والذهن. ويشكل الفصل الأول الذي أنشأه الباحث د. عبد الرحمن محمد طعمة تمهيدا يضع سائر الفصول في إطارها، لا سيما أن الدراسات العرفانية الجادة لا تزال قليلة باللسان العربي، فالحاجة لا تزال ماسة للتعريف بهذا الاتجاه في أهم مقارباته وطرائقه ومصطلحاته وأهدافه. كما قدم هذا الفصل مداخل علمية بينية ذات صلة بالنظرية اللسانية العرفانية المعاصرة، وقد وقف الباحث على أطروحة تقرير "سلون" الممثل لبزوغ العلم العرفاني عموماً في حقل فلسفة العلوم الغربية، مثلما عرض بعض مرتكزات بنائية المعجم الذهني، وانتهى الباحث إلى فرضية "وهم المعرفة" التي تمثل – من وجهة نظره- مدخلاً جديداً منفتحاً على علوم أخرى تبحث في الظاهرة اللسانية الإنسانية وتعالقها مع مباحث الكون.
تحليل لملامح الأبنية الذهنية
أما الفصل الثاني فقد عنيت فيه الباحثة د. عفاف موقو بتحليل ملامح من الأبنية الذهنية للفضاء في النحو العربي؛ إذ اقترحت قراءة لإشكالية مقولة الظروف في تراثنا النحو العربي، وذلك اعتماداً على نماذج من المصنفات النحوية القديمة. وأجرت دراستها على طريقة تمثيل اللغة للفضاء من خلال الكشف عن الأبنية الناشئة عن تعيين الصورة على أساس خلفية مفردة. وانتهت الدراسة إلى الإقرار بأن ظروف المكان عناصر نحوية تؤدي دوراً مركزياً في بنينة المقولة التصورية للفضاء. ومرد ذلك أنها تحدد الأبنية الذهنية الممثلة للفضاء. من خلال الاختيار النظامي لبعض مظاهر مشهد فضائي معين وترشيحاً لمثيل المشهد الفضائي الكلي دون سائر مظاهره المكونة له. مثلما حاولت الدراسة في جانبها التطبيقي الإحاطة بالتمييزات الفضائية الرئيسة الناشئة عن الظروف بما هي عناصر نحوية.
استعراض للإطار النظري
واهتم الباحث د. الحبيب المقدميني في الفصل الثالث باستعراض الإطار النظري العام للسانيات العرفانية، ثم تطرق إلى أهم المبادئ في دراسة الدلالة وخاصة مفهوم الموسوعية، واهتم بتقديم مقاربة طالمي في الدلالة اللغوية التي سعت إلى تبويب القدرات العرفانية الإدراكية وتنضيدها وفق تصور معين، يسهم إجرائيا في فهم الكثير من الظواهر الدلالية النحوية. مثلما عرض الباحث الخطاطات الذهنية المنبثقة من التجربة الجسدية بوصفها خلفيات تمكننا من فهم الدلالية اللغوية أو غيرها من الأنظمة العلامية.
تطبيقات في مجالات إنتاج الخطاب
وعالج الباحث د. عمر بن دحمان في الفصل الرابع تطبيق المنظور العرفاني في مجالات تتصل بإنتاج الخطاب وتلقيه في المقام التربوي، واهتم بإحدى الآليات والاستراتيجيات الخطابية المعتمدة التي عدت أساسية ومركزية ولا غنى عنها في الفهم والإفهام والتواصل بشكل عام، ألا وهي التفكير التمثيلي أو القياسي في مظاهره المختلفة. وحاول الباحث إبراز أهمية تجلياته في اللغة والخطاب من منظور عرفاني وإسهامه المركزي في عملية بناء المعنى وتأويله في أثناء التواصل، وبخاصة بعد المكانة التي صارت تحظى بها ظاهرة الاستعارة بعد اكتشاف أهميتها ودورها المركزي في الأنشطة البشرية الحياتية اليومية. وقد رصدت، في هذا الإطار، بعض الأبحاث ذات المنطلق اللساني العرفاني الحضور الاستعاري والتمثيلي في المقام التربوي بوصفه من الأنشطة الإنسانية الخصبة التي تستخدم فيها استراتيجيات تواصلية وإبلاغية يوظفها المعلمون والتربويون من أجل إيصال الفكرة إلى المتعلمين الذين يطلب إليهم التفاعل مع ما يعرض عليهم سواء أكان ذلك داخل الصف أم عبر المناهج والمقررات التعليمية.
نظر في وجوه التهجين والمزج
ونظر الباحث د. صابر الحباشة في الفصل الخامس في وجوه التهجين والمزج والتوليد الممكنة بين المنظورين العرفاني والتداولي. فإذا كان المعول عليه في الدراسات العرفانية هو تنشيط العمليات الذهنية في تنشيط الدلالة، فإن الدراسات التداولية "وهي رافد من روافد الاتجاه العرفاني" تركز على أهمية السياق في إنتاج المعنى. إذ تأتي المقاربة الهجينة لتبرز تأثير السياق المهم في بيئاتنا العرفانية، ومن ثم فلا مجال للفصل أو لعزل البيئة الذهنية عن التفاعلات الواقعية، إلا عزلاً أو فصلاً إجرائيين بهدف الدراسة والاختبار، فالأقوال والخطابات تحلل عرفانياً وتداولياً في ضرب من الاسترسال والتراكيب.