د.مريم دمنوتي
لقد أثارت السيرة الذاتية باعتبارها محكياً أدبياً، كثيراً من الأسئلة تصب في مصطلحها وتعريفها والتنظير لها ونوعيتها ومفهومها وما إلى ذلك. وإذا كان كل هذا لا يدخل ضمن اهتمامنا في سياق هذه المقالة المحدودة، فإننا نكتفي باعتبارها نوعاً أدبياً، يطرح فيه الكاتب ذكريات حياته وما حققه من إنجازات فكرية أو إبداعية أو تربوية وما أشبه. وبالرغم من محاولات بعض النقاد العرب استكشافه في الثقافة العربية القديمة، ظلت السيرة الذاتية نوعاً أدبياً تم إحياؤه في أدبنا العربي الحديث والمعاصر، بفعل عامل المثاقفة.
وبالتفاتة استقصائية سريعة إلى المتون السير ذاتية غربياً وعربياً، يتضح أن هذا اللون الأدبي قد ظهر على صورته الحديثة في أوروبا، قبيل القرن الثامن عشر، من خلال بعض الأعمال الريادية في هذا المجال، تتقدمها "اعترافات جان جاك روسو"، التي اعتبرها النقد الغربي أول نص سير ذاتي حقيقي، بما حملته من تعرية للذات، ماثلة في تضاعيفها بشكل لا يشعر معه روسو بأي حرج، بحيث صور حياته على حقيقتها، فكشف عن أعماق نفسه، معترفاً في صراحة عارية بأدق الإحداثيات التي مرت به في حياته، طيبها وخبيثها رديؤها وجيدها، مما تسبب في تأخير ترجمتها إلى العربية حوالي قرنين من الزمن، بعد أن ترجمت مبكراً إلى كثير من لغات العالم المتقدم.
كتاب "الأيام"
أما المشهد في العالم العربي، فكما يعلم المهتمون بهذا الفن السردي، يرجع الفضل إلى انتعاشه بالحقل الثقافي العربي، إلى رواد كتابة السيرة الذاتية العرب، وأبرزهم أحمد أمين في سيرته الذاتية الرائدة (حياتي)، وطه حسين في سيرته الشهيرة "الأيام". وليس مستغرباً أن نجد حركة الأدب العربي الحديث والمعاصر، تفتقر إلى كم مقبول نوعياً من متون السيرة الذاتية الحقيقية.
بيد أنه يحمد لصاحب (الأيام) طه حسين، كونه صاغ سيرته الذاتية بكل عناصرها الفنية الصريحة، وإن غابت عنها بعض أسراره الحميمية. من أجل ذلك اعتبرها النقاد، أهم وأسبق سيرة ذاتية في العالم العربي على المستوى الأجناسي، في العصر الحديث. إذ تجسدت فيها خصائص هذا النوع السردي الحميمي، ويمكن الزعم بأن عميد الأدب العربي قد كتبها متأثراً بالكاتب الفرنسي جان جاك روسو، وإن لم يرق تحت وطأة الواقع السوسيوثقافي المحافظ، إلى مستوى تعرية الذات والاعتراف ، كما لدى هذا الكاتب الفرنسي الجريء الشهير.
حكي استعادي نثري
وعلى مستوى التنظير، فحينما يتردد خطاب السيرة الذاتية على مسامعنا، يتبادر إلى ذهننا سريعاً المفكر والمنظر الفرنسي المعروف فيليب لوجون، الذي عرّفها قائلاً: "السيرة الذاتية حكي استعادي نثري، يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته" (السيرة الذاتية، ترجمة وتقديم عمر حلي). وإن كان فيليب لوجون قد تراجع في مقالاته لاحقا عن هذا التعريف، بعد أن عارضه جورج ماي في طرحه الاستيعادي هذا.
على أي، لا يسمح لنا المجال هنا أيضاً، بالاستطراد إلى الخوض في هذا الإشكال النقدي، الذي أثار نقاشا عميقاً مطولاً واجتهاداً تنظيرياً مثرياً، بين كبار منظيري الأدب في الغرب، بقدر ما يهمنا في هذه العجالة، الاقتراب بمقدار وبصورة حصرية، من حقل السيرة الذاتية في الوطن العربي، وذلك من خلال السؤالين المباشرين المواليين:- لماذا لم يجرؤ معظم كتابنا وكاتباتنا في الوطن العربي على كتابة سيرهم الذاتية؟ - ولماذا ظل النقد العربي محتشما غائباً، ومحدوداً في مجال التنظير للسيرة الذاتية؟
إن هذين السؤالين وغيرهما يفرضان نفسيهما أمام التراكم الكمي والنوعي، الذي شهده المنجز الإبداعي العربي من المحيط إلى الخليج، في شتى الأجناس والأنواع الأدبية شعراً ورواية وقصة قصيرة ومسرحية... ورغم احتفاء الندوات العلمية والملتقيات الثقافية والجوائز الأدبية بهذه الأنواع الأدبية؛ فقد ظل مثل هذا التراكم الكمي والنوعي في مجال السيرة الذاتية محدوداً، مقارنة بما تقدم من الأجناس الأدبية. وتبعاً لذلك، وجد كثير من النقاد العرب مبرراتهم في عدم الإقبال على خوض مغامرة التنظير النقدي لأدب السيرة الذاتية، وطرح الأسئلة حول إشكالياتها الملتبسة، إلا بقدر لا يعتد به، بحجة شح الإنتاج في فنها، استناداً إلى معادلة العلاقة التلازمية بين الإبداع والنقد، مما يفضح بشكل عام، تكاسل الكتاب العرب عن كتابة سيرهم الذاتية الصريحة، وامتناعهم عن الإفصاح عن أسرار الذات العميقة، التي من شأنها أن تضيء حقيقة حيواتهم وأبعاد إنتاجهم الأدبي معا، وكأنهم لم يمروا مثلا بمرحلة المراهقة وتوابعها، ولا اقترفوا أخطاء معيبة كامنة في سجل مغامراتهم، مثل كل البشر خلال تحصيل تجارب الحياة.
تقنية التمويه والمراوغة
وفي هذا السياق، ليس غريباً أن يلاحظ المهتمون بالموضوع، أن كثيراً من الكتاب العرب تسعفهم مهارتهم في إتقان تقنية التمويه والمراوغة، بحيث يمكن الزعم أن معظم إبداعهم السردي روايات وقصصا، هو في حد ذاته "أوتوبيوغرافية" مقنعة، أنجزت تحت اسم رواية أو قصة، تحايلاً واستبعاداً لارتباط بعض السلبيات بأسمائهم. مع العلم أن تثبيت نوعية التجنيس، لا يعد إطلاقاً مؤشراً كافياً على انتماء هذا الأثر الأدبي أو ذاك إلى جنس أدبي معين، بل إنه طبيعة التجربة المعالجة ومحتوى الكتابة ومؤشرات جنسها وشروط صياغتها الجمالية، ما يمنح النص الإبداعي شرعية انتمائه إلى هذا الجنس أو ذاك.
وفي الوقت الذي يتفق فيه المثقفون والنقاد والمبدعون عربياً، على الطرح القائل بأن الحرية شرط أساسي للإبداع، يتضح على صعيد الممارسة الفعلية لطقوس الكتابة، أننا أبعد بكثير من أن نجرؤ على نشر أسرارنا بين القراء، أو أن نبوح بعوالمنا الدفينة أمام الملأ. ولعل دلالة ذلك تتجه نحو طبيعة شخصيتنا العربية وامتداداتها السيكولوجية، التي تتأسس على طابع الازدواجية في تكوينها الفكري وخصائصها المحافظة، التي تحكمها مختلف الطابوات الكابحة. فهي في صلبها تشبه في تقديرنا المتواضع الجبل الجليدي الذي لا يظهر منه إلا ثمنه. وربما لهذا السبب، ألفنا أن نرى كتابنا وكاتباتنا حين يرقون الى امتلاك شخصية اجتماعية مرموقة لها وضعها الاعتباري والاجتماعي، سرعان ما يبتعدون تدريجياً عن الخوض في كتابة السيرة الذاتية وتعرية النفس أمام الآخرين، نظراً لحساسية ذلك في المجتمع الشرقي.
التردد سيد الموقف
ولا يفوتنا في الأخير، أن نشير إلى أن ذلك الموقف، ليس مشهداً جديداً بالنسبة لجنس السيرة الذاتية العربية، بل هو أكثر انسجاما مع الواقع الشرقي المحافظ. إلا أن فائدته تكمن في تبين بعض أسباب طبيعة وشح كتابة السيرة الذاتية في الوطن العربي، لذلك يظل التردد هو سيد الموقف في الاقتراب من السير الذاتية العربية، حيث يتساءل المتلقي هل بالفعل كتب الكاتب سيرته الذاتية؟ أو هل هذا العمل سيرة ذاتية أصلاً؟