كان كهلاً في الخمسين، مديد القامة، وعلامات البؤس بادية عليه في سائر أحواله وأفعاله. طالت لحيته وحفرت الأيام في وجهه أخاديد لا تخفى. عُرف بين الناس بعدم استقراره على رأي أو على حال، يقول الشيء وضده ويأتي الفعل وعكسه. يقيم الصلاة أياماً ويهجرها أياماً، يصوم ويفطر.. ولا يستقر على حال.
سألتُ: إلى متى أنت معلق بين الأرض والسماء، فلا أنت من سكان هذه ولا من سكان تلك؟! رد بهدوء لا مبالٍ: إن حالي – كما يقول أبو حيان التوحيدي رحمة الله عليه - سيئةٌ كيفما قلّبتُها، لأن الدنيا لم تواتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها، فإلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ وإلى متى ندعي الصدق، والكذب شعارنا ودثارنا؟ وإلى متى نستظل بشجرة تحجب عنا ظلها...؟!».
قلت: هكذا ديدن جل البشر، وقليل منّا من نجا بنفسه، بسلك أقوم المسالك نحو المعادلة التي لا تجعل الدنيا أول هّمنا، ولا تجعل الآخرة بعيدة عن أنظارنا.
قال: سوف أقصّ عليك قصتي التي لا أقصّها على العامة أجمعين، خشية أن يساء فهمي أكثر مما هو مساء، فقد تعبت من ألسنتهم:
لقد نشأت في شظف شديد، وكان لرغيف الخبز معنى كبير في حياتنا، وللحم بريق الذهب والجواهر، ومع ذلك كان تديننا شديدا، فقد كنت أرافق جدي للصّلاة، ملزماً بأداء صلاة الفجر حتى في أعقاب ليالي الشتاء القاسية! ولم يكن إتياني لها وقتها إلا كإتيان الأطفال للعب، أقلد حركات الكبار. فينهرني جدّي ويقول: الصلاة سكينة، فإن تكن كذلك فلا قيمة لها، ويشتد عليَّ حتى البكاء!!
وفي البيت أتلو القرآن كل يوم وأكرر سوره وحفظ آياته، فقد كنت أحب التلاوة في الصباح الباكر، وأوقع من الآي الكريم، ما به تتسع حياتي ويريح نفسي، فأعلو عليها علوا عظيماً. وكان صوت جدي يوقع نغمات الترتيل رقيقاً حزيناً، فيعانقني ويدفن في قلبي طمأنينة النفس الراضية المرضية...!
وعندما أتعب ويغشاني النعاس، كان جدي يقدَم الكتب الصفراء للتسلي والاعتبار: قصة «العاشق المعشوق» و»عبدالله البري وعبدالله البحري» و»رأس الغول» و»سيف بن ذي يزن». حتى أصبحت لهذه الكتب ما يشبه القداسة في حياتي. وكدت أحفظها من كثرة ما أعيد قراءتها وتكرارها على أترابي. فأجد في الحكايات الخرافية لذة ما بعدها لذة. لذة تغني عن الطعام وتُنسيني النوم. فأتخيل نفسي، وأنا أطير في الهواء، وأجوب أرجاء السماء السابعة بين النجوم، وأحياناً أرى نفسي أجوب الأرض السابعة، فألتقي بملكوت الجن وأصحبهم وأتكلم معهم! أما في المساء، فكنت أتسلل خفية إلى دكان عتيق ليس ببعيد عن بيت جدي يجتمع فيه كل ليلة رجال، ومنهم خالي، فأسرق النظر إليهم والسمع، فأراهم يشربون شيئاً لم أكن أعرف ما هو، ولكن له سر عجيب في البهجة، فما هي إلا دقائق من الشرب حتى تنطلق الضحكات المجلجلة من أولئك الرجال القساة المتجهمين طوال النهار. فعلمت أن ذاك الابتهاج مصدره تلك الزجاجات الخضراء، فأتساءل في الصباح وأن أشتم رائحتها وهي ملقاة في القمامة: «كيف يمكن لماء كريه الرائحة عفن أن يبهج القوم وخالي»!؟؟
وعندما بلغتُ السبع من العمر، دخلتُ ما كان يسمى مدرسة، بعد أن حفظت حزب «عمّ وسبّح»، فجيء لي بكتب، فسردت ما فيها سرداً، وفي نفس متصل ونفضت يدي منها في ساعة. فرفعت صفين مرة واحدة. وصرت أصغر طفل في الصف الثالث، فكنت وقتها ككرة مطاطية صغيرة تقذفها فترتد إليك في لمح البصر!!
ولما بلغت عقدي الثاني صرت ألتهم الكتب التهاما، فقرأت «الروض العاطر ونزهة الخاطر»، «والجواهر اللماعة واستحضار ملوك الجن في الآن والساعة»، وكنت أقول لأصحابي: «لقد كتبت تميمة لصاحبتي حتى تحبني على قبح فيّ»! ولكن لما دخلت الثانوية، أنكرت عهدي بالكتب الصفراء وتحولت إلى قراءة كتب «فرويد» و «ماركس» وأحببت الفلسفة الوجودية. وأعجبتني نظرية تناسخ الأرواح، ونظرية التطور، لما وجدت في التناسخ ما به أحيي وأموت عدة مرات. فتمتد حياتي ولا تنقطع، فأحيا وأموت وأحيا وأموت حتى يكتمل وجودي حتى أملّ. وكان يحلو لي أن أشرح الفكرة لإخوتي.. وأمي وأبي صامتين. وكنت في الليل أداوم على الصلاة وفي الفجر أقرأ في المصحف، وأنقطع بعد ذلك عن كل شيء، ضائعاً لا أدري إلى أين أمضي، معلقاً بين السماء والأرض. وكثيراً ما ضرب جدي كفاًّ بكفِّ: «ما هذا بتعليم وما هذا بدين، جهنم وبئس المصير»!!
فلما بلغت عشرة العشرين، وظن أصحابي أن حالي استقر، ولكن أشواقي ازدادت توزعا وهمي كبر وقلب حزن، فأرسلت لحيتي، وقلّ كلامي وسكنني وقار وسكينة. وقد تمر بي أيام أنقطع فيها للعبادة فأقسو على نفسي وأجد في ذلك لذة ما مثلها لذة!! ولما طال بي الأمر انكمشتُ وتكورت وخامرتني فكرة الرحيل بعيدا عن عالم الصلاة والهو معا!! بعد أن وجدت نفسي هواء وقلبي خواء. فكرهت صلاة المنافقين، وبداً لي الجلوس إلى العامة خسة وتواضعا، فهجرت صلاتي والناس!
لقد بحثت عن الصلاة التي تفعل في النفس السكينة والرضى، فتكون كالنور يسري في عروقي ومع دمي، فلما لم أجد من ذلك إلا رجعاً بعيداً، عرفت أنني أغالب النفس فتغلبني. وأنني أكذب عليها، فتسخر مني فيذهب عليّ وضوئي سدى. وتصبح صلاتي كضرب من الحرث في البحر والنفخ في الريح!! فلما فنيت عصاتي وجربت الرحيل إلى الجهات هباء. وضاق بي الأفق وانهد كياني، حزنت واشتقت التوحد. فناديت الرب: آنسني بفنائك يا الله. فإذا هو مُعرض عني وأنا في حيرتي أبكي!!
قال الراوي: كان الرجل يبكي في جنونه ويقول: ليت الله يريني من نوره ما يجمع شتاتي!! «رحمه الله فقد كان متعباً»!
سألتُ: إلى متى أنت معلق بين الأرض والسماء، فلا أنت من سكان هذه ولا من سكان تلك؟! رد بهدوء لا مبالٍ: إن حالي – كما يقول أبو حيان التوحيدي رحمة الله عليه - سيئةٌ كيفما قلّبتُها، لأن الدنيا لم تواتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها، فإلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ وإلى متى ندعي الصدق، والكذب شعارنا ودثارنا؟ وإلى متى نستظل بشجرة تحجب عنا ظلها...؟!».
قلت: هكذا ديدن جل البشر، وقليل منّا من نجا بنفسه، بسلك أقوم المسالك نحو المعادلة التي لا تجعل الدنيا أول هّمنا، ولا تجعل الآخرة بعيدة عن أنظارنا.
قال: سوف أقصّ عليك قصتي التي لا أقصّها على العامة أجمعين، خشية أن يساء فهمي أكثر مما هو مساء، فقد تعبت من ألسنتهم:
لقد نشأت في شظف شديد، وكان لرغيف الخبز معنى كبير في حياتنا، وللحم بريق الذهب والجواهر، ومع ذلك كان تديننا شديدا، فقد كنت أرافق جدي للصّلاة، ملزماً بأداء صلاة الفجر حتى في أعقاب ليالي الشتاء القاسية! ولم يكن إتياني لها وقتها إلا كإتيان الأطفال للعب، أقلد حركات الكبار. فينهرني جدّي ويقول: الصلاة سكينة، فإن تكن كذلك فلا قيمة لها، ويشتد عليَّ حتى البكاء!!
وفي البيت أتلو القرآن كل يوم وأكرر سوره وحفظ آياته، فقد كنت أحب التلاوة في الصباح الباكر، وأوقع من الآي الكريم، ما به تتسع حياتي ويريح نفسي، فأعلو عليها علوا عظيماً. وكان صوت جدي يوقع نغمات الترتيل رقيقاً حزيناً، فيعانقني ويدفن في قلبي طمأنينة النفس الراضية المرضية...!
وعندما أتعب ويغشاني النعاس، كان جدي يقدَم الكتب الصفراء للتسلي والاعتبار: قصة «العاشق المعشوق» و»عبدالله البري وعبدالله البحري» و»رأس الغول» و»سيف بن ذي يزن». حتى أصبحت لهذه الكتب ما يشبه القداسة في حياتي. وكدت أحفظها من كثرة ما أعيد قراءتها وتكرارها على أترابي. فأجد في الحكايات الخرافية لذة ما بعدها لذة. لذة تغني عن الطعام وتُنسيني النوم. فأتخيل نفسي، وأنا أطير في الهواء، وأجوب أرجاء السماء السابعة بين النجوم، وأحياناً أرى نفسي أجوب الأرض السابعة، فألتقي بملكوت الجن وأصحبهم وأتكلم معهم! أما في المساء، فكنت أتسلل خفية إلى دكان عتيق ليس ببعيد عن بيت جدي يجتمع فيه كل ليلة رجال، ومنهم خالي، فأسرق النظر إليهم والسمع، فأراهم يشربون شيئاً لم أكن أعرف ما هو، ولكن له سر عجيب في البهجة، فما هي إلا دقائق من الشرب حتى تنطلق الضحكات المجلجلة من أولئك الرجال القساة المتجهمين طوال النهار. فعلمت أن ذاك الابتهاج مصدره تلك الزجاجات الخضراء، فأتساءل في الصباح وأن أشتم رائحتها وهي ملقاة في القمامة: «كيف يمكن لماء كريه الرائحة عفن أن يبهج القوم وخالي»!؟؟
وعندما بلغتُ السبع من العمر، دخلتُ ما كان يسمى مدرسة، بعد أن حفظت حزب «عمّ وسبّح»، فجيء لي بكتب، فسردت ما فيها سرداً، وفي نفس متصل ونفضت يدي منها في ساعة. فرفعت صفين مرة واحدة. وصرت أصغر طفل في الصف الثالث، فكنت وقتها ككرة مطاطية صغيرة تقذفها فترتد إليك في لمح البصر!!
ولما بلغت عقدي الثاني صرت ألتهم الكتب التهاما، فقرأت «الروض العاطر ونزهة الخاطر»، «والجواهر اللماعة واستحضار ملوك الجن في الآن والساعة»، وكنت أقول لأصحابي: «لقد كتبت تميمة لصاحبتي حتى تحبني على قبح فيّ»! ولكن لما دخلت الثانوية، أنكرت عهدي بالكتب الصفراء وتحولت إلى قراءة كتب «فرويد» و «ماركس» وأحببت الفلسفة الوجودية. وأعجبتني نظرية تناسخ الأرواح، ونظرية التطور، لما وجدت في التناسخ ما به أحيي وأموت عدة مرات. فتمتد حياتي ولا تنقطع، فأحيا وأموت وأحيا وأموت حتى يكتمل وجودي حتى أملّ. وكان يحلو لي أن أشرح الفكرة لإخوتي.. وأمي وأبي صامتين. وكنت في الليل أداوم على الصلاة وفي الفجر أقرأ في المصحف، وأنقطع بعد ذلك عن كل شيء، ضائعاً لا أدري إلى أين أمضي، معلقاً بين السماء والأرض. وكثيراً ما ضرب جدي كفاًّ بكفِّ: «ما هذا بتعليم وما هذا بدين، جهنم وبئس المصير»!!
فلما بلغت عشرة العشرين، وظن أصحابي أن حالي استقر، ولكن أشواقي ازدادت توزعا وهمي كبر وقلب حزن، فأرسلت لحيتي، وقلّ كلامي وسكنني وقار وسكينة. وقد تمر بي أيام أنقطع فيها للعبادة فأقسو على نفسي وأجد في ذلك لذة ما مثلها لذة!! ولما طال بي الأمر انكمشتُ وتكورت وخامرتني فكرة الرحيل بعيدا عن عالم الصلاة والهو معا!! بعد أن وجدت نفسي هواء وقلبي خواء. فكرهت صلاة المنافقين، وبداً لي الجلوس إلى العامة خسة وتواضعا، فهجرت صلاتي والناس!
لقد بحثت عن الصلاة التي تفعل في النفس السكينة والرضى، فتكون كالنور يسري في عروقي ومع دمي، فلما لم أجد من ذلك إلا رجعاً بعيداً، عرفت أنني أغالب النفس فتغلبني. وأنني أكذب عليها، فتسخر مني فيذهب عليّ وضوئي سدى. وتصبح صلاتي كضرب من الحرث في البحر والنفخ في الريح!! فلما فنيت عصاتي وجربت الرحيل إلى الجهات هباء. وضاق بي الأفق وانهد كياني، حزنت واشتقت التوحد. فناديت الرب: آنسني بفنائك يا الله. فإذا هو مُعرض عني وأنا في حيرتي أبكي!!
قال الراوي: كان الرجل يبكي في جنونه ويقول: ليت الله يريني من نوره ما يجمع شتاتي!! «رحمه الله فقد كان متعباً»!