حسن الجعفر
ثيمة الخراب بتجلياتها وأبعادها المتشابكة المتعددة وما تستدعيه من تساؤلات شعرية هي البنية الدلالية العميقة في نص "مرايا الخراب" للشاعر البحريني عبدالله زهير. وبعيداً عن البحث في تناصيات هذه القصيدة بنصوص أجنبية وعربية في العنوان وسواه "قصيدة الأرض الخراب للشاعر والناقد الكبير توماس أليوت على سبيل المثال لا الحصر"، سنحاول أن نشير إلى ملامح بنائية دلالية في هذا النص الشعري ترتكز على جماليات التحرر من البؤرة النمطية إلى بؤرة أكثر عمقاً وحيوية؛ حيث يتشكل النص من خلال لغة شعرية ذات انحناءات عفوية الحبك رهيفة الصياغة. وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نحدد معالم/ ملامح البنية النصية والدلالية وفقاً للنقاط الآتية:
أولاً، حضور المكان:
شعرياً يشكل المكان معطى يتجاوز الأفق الفيزيائي إلى ما يشير إلى أبعاد ميتافيزيقية "قد تكون الآفاق النفسية والعاطفية والفكرية جزء من من هذه الأبعاد"، إذ يحضر ذلك المكان بوصفه شكلاً متناقضاً وهلامياً ومحيراً؛ فنرى مفردات المكان "الوطن" تحاول أن تتملص من كينونتها الأحادية إلى تعددية تتماهى مع بعضها البعض: خرائب، قلاع، مدائن، حدائق... وهكذا فإن دلالة المكان هنا هي محاولة لاكتشاف الأشياء وتفكيكها وتحويلها من أشياء واضحة واعتيادية إلى أشياء غريبة وغامضة وغير مفهومة؛ سعياً إلى إعادة تشكيلها وخلقها في الأفق المتخيل.
ثانياً، حضور الزمان:
زمان النص تجليات متعددة ومتنوعة –كما هوالحال في مسألة حضور المكان- حيث يتشكل بدلالتيه الحقيقية والمجازية، كالمساء والنهارات والليل وإشراقاته الخاصة. فلا زمن إلا ما يجسده هذا الإنسان على أرض واقعه ومخيلته:
" وليس هناك من زمن
سوى تلك الأناشيد البعيدة
في صدى المتعتقين
وفي خطى الآتين كالضوء الهذائي المدى"
ولا بد للشاعر من السفر في هذا الزمن الهلامي متلون الجهات والمناخات كالحلم أو كالكابوس لا فرق:
"يا هواء الليل
سافر بي إلى زمن الخرائب
سافر بي ولا تسأل لماذا.."
ثالثاً، قراءة الصورة:
في هذا النص تنبني الصورة بطريقة عفوية لا تنفصل عن بنى الدلالة وإنتاجاتها المتواصلة:
"لي نخل
فمشط سعفه بيديك
لي وجه على عمق الفجائع
لي هناك حدائق لإلهي المنفي
لي قمر يغار علي من ظلي "
ولذلك فهذه الصورة تتحرك بنشاط في الفضاء النصي مضمخة بالشعرية المشعة من أعماق النص في ذروة امتزاجاتها بالألوان والأصوات والمرئيات.
رابعاً، الوطن الشعري:
صحيح أن الأوطان المادية الفيزيائية غالية على نفوس أصحابها، غير أن الوطن الميتا فيزيائي الداخلي "وطن الشعر بصفته مكاناً آمناً للحب والحلم والجمال" هو ذو كينونة ودلالات أكثر عمقاً وفرادة ومحسوسية:
"ليس لي وطن أحن إليه
أشتاق تربته الرهيفة"
فها هنا نلاحظ التكرار تشديداً على عمق هذا البعد الوجودي المتوهج بشكل مؤبد في نفس هذا الإنسان الصغير في السطح الظاهري ولكنه الكبير في عمق بواطنه روحاً وجسداً:
" لا. ليس لي وطن أحن إليه
أنا ليس لي وطن أحن إليه"
خامساً، علاقة العنوان برؤية النص:
"مرايا الخراب" عنوان يفتح نافذة المخيلة على عوالم المرايا بصفتها تكتشف الأبعاد الواسعة في الأشياء برؤية جديدة مختلفة ومتعددة على المستويات البصرية والما بعد بصرية. إذ تنفتح العيون على رؤية كونية قوامها التلهف الإنساني الحواسي الحدسي الذاتي نحو كشف عوالم عميقة في الأشياء:
"شفتي المشققة النوازع تجتني
وجع المساء كمثل قمح
أو كأن هذا الظل في هذا المساء
خريطة مشنوقة"
إنها رؤية لا تكتفي بالنظرة العابرة، وإنما تشغل كل ما هو ممكن في الذات من احتمالات التأمل والشعور والحدس والمخيلة وإمكاناتها من أجل الوصول إلى كينونة حيوية متجددة إلى ما لانهاية.
سادساً، علاقة الشعور بالواقع:
إن الذات الشاعرة لا تنفصل عن واقعها أبدا إذ تخلق النص وفقا لدفقات المشاعر والأخيلة وطفرات الأفكار:
" ... وجوه أطفال تنام على الرصيف
تنام تحت الشمس عارية
فترفعها أكف الله نحو الصمت
أشلاء فأشلاء
فيعرى من خطاه الموت
ثم تبتدئ الفصول..."
وفي تصوري إن مسألة الفصل بين الواقع وعملية الخلق الإبداعي هي محض وهم لا يمكن أن تحصل طالما كانت الذات الكاتبة تستقي أدواتها من حياتها الخاصة والعامة بتجلياتها المختلفة والمتنوعة...
خاتمة:
إن قصيدة "مرايا الخراب" نص مكتنز بالأسئلة المضمرة؛ إذ يتشاكس مع ذاته ويفتح مشاكسات وسجالاً وجدالاً مع القارئ في الآن ذاته. ولا يمكن أن ينفصل الشعر عن الفلسفة وصراع الإرادات والأفكار في هذا النص المتمرد المتفرد. إن هذا النص لا يقدم لنا شعراً بحصر المعنى؛ وإنما يقدم فكراً وفلسفة شعرية ذات أبعاد مختلفة. فكما أن الفلسفة تحاول الكشف عن أعماق الأشياء وجوانبها الأخرى، فكذلك هذا النص يحاول فعل ذلك بامتياز. وخلاصة القول: إن هذا النص يمكن اعتباره أيقونة شعرية فلسفية لغوية تخلخل بنى الزمان والمكان والأشياء كما هي مدركة ومتحققة في الواقع السائد بخلقها فضاءات حيوية ومتحركة ومتحولة ومتغيرة وفقاً لما يشاؤه الشعراء الحالمون في وطن تأمن فيه تجليات الحب والجمال والمخيلة جسداً وروحاً على حد سواء. وهنا تكمن جماليات التحرر في النص على مستوى الشكل؛ بما يساهم في تحرير الدلالات نفسها من أفقها المعتاد والجامد إلى آفاق أكثر جمالاً واتساعاً وعمقاً.