العربية.نت – طه عبد الناصر رمضان

خلال الفترة المعاصرة، عرفت العديد من النظريات القديمة التي سادت وانتشرت بالعالم زوالها بفضل تقدم العلم. فمع تقدم الأبحاث العلمية وظهور وسائل تكنولوجية جديدة، تمكّن العلماء من دحض هذه النظريات التي تبدو لنا اليوم غريبة وغير قابلة للتصديق.

وإضافة لنظريات كالأقوام التي تعيش تحت الأرض والأرض المسطحة ومركزية الأرض التي عرفت نهايتها بفضل تقدم الفيزياء وعلم الفلك وظهور التلسكوب والمطبعة والرحلات الاستكشافية، هيمنت نظرية الميازما على الأوساط الطبية لقرون عديدة قبل أن تعرف نهايتها بشكل رسمي أواخر القرن التاسع عشر بفضل تكاتف جهود العديد من العلماء.

عرفت نظرية الميازما انتشارها منذ القديم بكل من أوروبا والصين وشرقي آسيا ومن خلالها ربط البشر العديد من الأمراض كالطاعون والكوليرا بهواء ضار وسام أطلقوا عليه أسماء عديدة كالهواء السيئ وهواء الليل والهواء الفاسد.

وعلى حسب مصادر تلك الفترة، تظهر الميازما عند اختلاط الهواء النقي بالجزيئات والمادة المنبثقة من تحلل المواد العضوية لتنتقل مع الهواء وتنشر الأمراض والأوبئة بين البشر متسببة في سقوط أعداد هائلة من الموتى.

وقد اشتقت كلمة الميازما من اليونانية القديمة ويقصد بها التلوث. وقد أدت نفس هذه الفكرة لظهور تسمية مرض الملاريا بالعصور الوسطى والتي يقصد بها الهواء السيئ.

إلى ذلك جاء ذكر وصف مشابه للميازما منذ مئات السنين، وقد صنّف الكاتب الروماني فيتروفيوس (Vitruvius) أحد أبرز الذين حدّثوا عن الأمر فذكر بكتاباته خلال القرن الأول بعد الميلاد هواء ونسمات صباحية مليئة بالسموم والأمراض تحل بالمدن قادمة من المستنقعات والكائنات التي تعيش بها.

كما اتجه أيضا العديد من كبار العلماء القدامى من أمثال الإغريقي أبقراط الملقب بأب الطب والطبيب الروماني الشهير غالن والعالم الأندلسي لسان الدين بن الخطيب الذي عاش بالقرن الرابع عشر وعاصر الطاعون الأسود للربط بين الهواء السيئ والمرض محملينه المسؤولية في نشر الأوبئة وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا.

في الأثناء، لقيت نظرية الميازما ترحيبا كبيرا من الأوساط الطبية بالقرون الوسطى ولحدود أواخر القرن التاسع عشر. فأثناء فترات الأوبئة، كان من العادي أن ترتفع أسعار الورود والأشياء ذات الروائح الطيبة والعطرة حيث أقبل عليها الناس لوضعها ببيوتهم وبالطرقات أملا في القضاء على الهواء السيئ وإنهاء تفشي المرض.

وبإنجلترا أيضا ترسّخت نظرية الميازما لقرون وربطها كثيرون بظهور المدن والأحياء الفقيرة المكتظة بالسكان مؤكدين على وقوف انتشار التلوث والروائح الكريهة بها وراء تفشي الأوبئة.

وبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عرفت هذه النظرية بداية نهايتها بفضل أبحاث عدد من العلماء. فمع انتشار وباء الكوليرا بلندن عام 1854، ربط الطبيب الإنجليزي جون سنو بين المرض والماء الملوث ضاربا بذلك عرض الحائط بقيم نظرية الميازما وهو ما أثار غضب العديد من العلماء الإنجليز حينها.

وخلال نفس العام، اكتشف الطبيب والجراح الإيطالي فيليبو باتشيني (Filippo Pacini ) بكتيريا ضمة الكوليرا المسببة للمرض إلا أن اكتشافه قوبل برفض وتجاهل من الأوساط العلمية التي فضلت مواصلة الاعتماد على نظرية الميازما لعقود أخرى قبل التأكد من صدق أبحاثه.

وقد انتظر العالم أبحاث كل من الفرنسي لويس باستور والألماني روبرت كوخ للقضاء على هذه النظرية القديمة. فخلال سبعينيات القرن التاسع عشر، اكتشف روبرت كوخ العصوية الجمرية المسببة للجمرة الخبيثة مساهما بذلك في إنهاء وجود نظرية الميازما بالأوساط العلمية وتعويضها بنظرية جرثومية الأمراض.