بات واضحاً أن العالم يتجه اليوم إلى الغلق التام أو شبه التام، وتضخم النزعات الوطنية والقومية مجدداً، بما في ذلك النكوص عن القواعد وبعض الاتفاقيات التي حكمت السياسة الدولية خلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، «وقد دشنت الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال هذا النكوص عن اتفاقية التجارة الدولية واتفاقية باريس للمناخ والخروج من منظمة اليونسكو وتعليق الاشتراك في منظمة الصحة العالمية...».

وفي ضوء هذا المناخ الدولي المهزوز، من المرجح أن الحمائية عائدة بقوة، بأشكال تعلي من العصبيات القومية، ووقتها لن يبقى من العولمة إلا ما يتعلق باكتساح تكنولوجيات المعلومات والاتصال لحياة الناس والمجتمعات وزيادة تأثيرها.

الوجه الأكثر خطورة من ذلك، أن النظام الدولي المؤسس -نظرياً على الأقل- على القانون الدولي كمرجعية أساسية لسلوك الدول، قد بدا واضحاً أنه يتراجع عن تلك المبادئ الحاكمة، ويتجه نحو حيثيات وتفاصيل عصر الغاب، في رجعة مدهشة إلى ما قبل عصر ظهور الديمقراطيات والمؤسسات والعهود الدولية المكرسة للإرادة الإنسانية المشتركة، عصر حركات التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها، عصر المد الحقوقي الذي اقتتلت من أجله الشعوب، عصر القوانين والعهود والدبلوماسية والبروتوكولات والمواثيق الدولية. هذا النظام الجديد أصبح كوكتيلاً ولقطات مستعارة من تاريخ نيرون، وهولاكو، وقراقوش، عصر ما قبل الفكرة البديلة عن الناب، ما قبل استبدال القنص بالزراعة والقطيع بالعائلة، والكهف بالبيت، والمحاكاة بالتجريد. ففي السابق، كان الانتماء للوطن عقيدة والدفاع عنه واجباً. وفي النظام الدولي الجديد صارت الوطنية الوحيدة التي يسمح بها هي تلك النعرات الاقتتالية التي تشطر الوطن إلى أوطان والأمة إلى قبائل وطوائف، وكلمة السيادة التي تغنت بها الشعوب، لم يعد لها أثر... دساتير وقوانين البلدان ومؤسساتها لم تعد مهمة. القرارات التي تمليها دولة أو دولتان هي القانون. وفي هذا المناخ المريض فقدت العلاقات الدولية مناخها الحضاري والإنساني أو هي في طريقها إلى ذلك.

* همس:

كل يوم،

أخوض آخر معاركي الصغيرة،

أجادل الغيمة الفارة مني،

أن تجلس معي،

على رصيف المقهى الشمالي،

لكني أشرب قهوتي وحيداً،

في آخر الليل.