^ لا شيء يمكن أن يبرر ذلك التراشق بالكلمات القاسية في البرلمان، فقد كان مشهداً غريباً وغير حميد وغير مستساغ بأي معيار من المعايير، بل وكان أمراً محرجاً للجميع، لأنه جاء من خارج السياق القيمي والقانوني للعلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فمجلس النواب واجب الاحترام، والوزير واجب الاحترام، تلك مسألة لا جدال فيها أو حولها، الاحترام المتبادل هو القاعدة الأولى، ووجوب التعاون من أجل المصلحة العامة هو القاعدة الثانية، ولكن قد يحدث المحظور في بعض الأحيان فتنفجر الأمور من حيث لا أحد يقصد أو يريد، وكم كنا نتمنى ومازلنا نتمنى -مع الخيرين في هذا البلد- ألا تتكرر مثل تلك المشاحنات الخارجة عن النص، وأن يكون بيت الشعب مثلما كان دائماً فضاء للحرية وللمصلحة العامة، ومدرسة للديمقراطية وتعلم التسامح والتعايش بين الأفكار والرؤى المختلفة والمتخالفة. ومن حسن الحظ أن هذا الخلاف الطارئ قد تم تجاوزه مبدئياً وقانونياً من خلال أمرين: -الأول: تلك الزيارة الكريمة لسمو رئيس الوزراء إلى البرلمان والتي حملت رسالة سياسية بالغة الدلالة على أن مثل تلك الخلافات الطارئة لا يمكن أن تعكر صفو العلاقة الجوهرية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث بددت تلك الزيارة جانباً مهماً من الزعل الطارئ. -الثاني: حسم النواب ديمقراطياً مسألة استجواب الوزيرة بما ساعد على إنهاء الجدل الذي أثاره الموضوع في حينه. ولكن وبالرغم من طي الملف من حيث الشكل والمضمون، فإن هنالك بقايا آثار لذلك الحادث وما تضمنه من تبادل للكلمات القاسية، يقودنا إلى تسجيل عدد من الملاحظات الهادئة: أولاً: لم يكن مثل هذا الحادث هو الأول في ساحة البرلمان، فقد سبق وأن شهدنا معارك مؤسفة، وتبادلاً للاتهامات وحتى اللكمات في بعض الأحيان، ومع ذلك كان بالإمكان دائماً لملمة الأمور في سياق القيم السائدة القادرة دوماً على استيعاب الأخطاء والتجاوزات العابرة.. وما حدث مؤخراً لم يكن مؤسفاً فقط، بل كان محزناً، تماماً كما كان محزناً المشهد الذي سبقه بليلة واحدة أمام مركز الشيخ إبراهيم الثقافي.. فمن حقنا جميعاً أن نختلف في تقديرنا للأمور، ومن الطبيعي أن تكون رؤانا ومواقفنا متباعدة، في الثقافة وفي السياسة والاقتصاد، وفي كل شيء، إلا في احترامنا لبعضنا البعض، ولحق كل منا في نيل نصيبه من حرية الرأي والتعبير، أليست هذه هي الديمقراطية.. ثانياً: أن تكون الثقافة محوراً لهذا الاحتكاك ولتبادل الاتهامات، فأمر طبيعي ومعتاد ومشروع، وليس في ذلك أي داع للغضب أو حتى للاستياء، فالبرلمان ساحة للديمقراطية ولتعايش مختلف الآراء والأفكار الموجودة في المجتمع، ومن حق كل طرف أن يكون له رأي وتقييم وتقدير مختلف للمسألة الثقافية، شأنه في ذلك شأن جميع الملفات الوطنية الأخرى، ولكن غير المقبول أن يكون حضور الثقافة في البرلمان فقط للانتقاد، فالثقافة بالرغم من أهميتها فإنها كانت في البرلمان هامشية مهمشة لا تكاد تجد فيه سوى العتب واللوم والمساءلة، فنادراً ما يتم الاهتمام بها ولا حتى بشؤون المثقفين، فكأنها ليست ملفاً من ملفات التنمية، ومثلما هي مهمشة في البرلمان، فلم نجد من يتبنى إنشاء مسرح وطني أو إحياء الدور الشعبية أو المحافظة على التراث أو إنشاء مراكز ثقافية في الداخل والخارج أو الاهتمام بالفنانين والأدباء والمبدعين بتفريغهم أو بتوفير ما به يتم تجنيبهم الفقر والفاقة، الخ تلك القضايا والملفات التي ينادي بها المثقفون منذ عقود.. أن يُستدعى ملف الثقافة إلى البرلمان للمحاسبة والنقد، فهذا حق أصيل للنواب، ولكن من حق الثقافة والمثقفين عليهم أن يُستدعى هذا الملف مرات ومرات لخدمة الثقافة والمثقفين ومناقشة قضاياهم وهمومهم، لأنه لا يوجد بلد في العالم ليس فيه للثقافة مكانة رفيعة. ثالثاً: بغض النظر عن اللغط الذي حصل -وما كان له أن يحصل لولا أن النفوس مشحونة- فإن التعبير عن الضيق من الثقافة كان عنواناً متكرراً خلال السنوات من الماضية من عدد من الإخوة النواب -وهذا حقهم- وقد شهدنا فصولاً سابقة من الضغط البرلماني حول بعض الأنشطة التي تقودها الشيخة مي، سواء من موقعها الرسمي أو من موقعها الأهلي المتصاعد، ولكن من الواضح أن تلك الضغوط لم تثنها عن التوقف عن عطائها الثقافي الذي لن ينقطع، سواء أكانت في المجمع الثقافي الرسمي أو خارجه، فقد كانت على الدوام كطائر الفينيق الذي يعود ليحلق من جديد، حتى وهي تواجه موجة عاتية من هجوم متعدد الأطراف من داخل المؤسسة الثقافية الرسمية أو من خارجها، فهي التي تحمل في قلبها وعقلها حب البلد وأهله وثقافته، جميع أعمالها ورحلاتها، ومفاوضاتها وأنشطتها، تصب في هذا الاتجاه لرفد الجهد الثقافي بإنشاء المزيد من المؤسسات التي تخدم الحركة الثقافية في البحرين عامة وفي مدينة المحرق خاصة، لقد كانت دوماً مع الحرية الكاملة في المجال الثقافي، تركت كل شيء من أجل ذلك، تبحث عن كل ما يفيد الثقافة والتراث وصورة البحرين في الداخل والخارج، وتمكنت عملياً من بناء شراكة استثنائية لإنجاز المشروعات الثقافية الأهلية وإقناع مختلف الأطراف الرسمية والأهلية بأهمية مثل هذه المشروعات في دعم الصورة الحضارية للبحرين، فطائر الفينيق الثقافي، لن يتوقف -على الأرجح- عن التحليق لأن الثقافة فعل حياة، قد يكون ذلك مصدراً لبعض المواجهات، ولكن الأمل يتجدد لرؤية أكثر ثقة في المستقبل في وطن يشق طريقه نحو التجدد والتقدم. همسة يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام، ولكنه يحتاج إلى خمسين سنة ليتعلم الصمت. إرنست همنغواي
ملاحظـــات هادئـــة عن الخـلاف حـــول «الثقافـــة»
15 أبريل 2012