في الثالث عشر من أبريل 2015، وبعد معاناته مع مرض السرطان، توفي الكاتب والصحافي إدواردو غاليانو، عن عمر يناهز 74 عاما في موطنه الذي ولد ونشأ فيه الأوروغواي.ولأن المنطقة العربية كانت تغلي بأحداث جسام، وكذلك تناقل أخبار وفاة نجوم الأدب والصحافة والفن، والتي حلت بكثرة في الأسابيع القليلة الماضية، فإن خبر رحيل غاليانو لم يأخذ حقه من الإبراز، فلم يلفت الانتباه، على عكس مادة الراحل ذاتها، التي لفتت الانتباه في أشهر وأقوى لغات العالم، ومنها اللغة العربية التي عرفته منذ أول الثمانينيات من القرن الماضي.ولد إدواردو غاليانو في الثالث من سبتمبر 1940 في مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي، واسمه الكامل: إدواردو جيرمان ماريا هوجوس غاليانو.وكانت الأوروغواي مثلها مثل بقية دول أميركا اللاتينية تعاني من وطأة الحكم الديكتاتوري الذي غالبا ما أدى إلى عنف سياسي واجتماعي مفتوح، وكانت طبيعة الصراع ما بين القوى السياسية وأنظمة الحكم المتعاقبة، مرتبطة أصلا بالصراع ما بين القوى العالمية الكبرى التي تركت نخبها تنوب عنها في ممارسة الاشتباك، فتولدت نظرة جوهرية لدى اليساريين بأن أزمة أميركا اللاتينية هي أزمة قارية في الأصل، ومصدر هذه الأزمة هو الكولونيالية، أو عصر الاستعمار الذي خلّف دولاً تغص بحكم ديكتاتوري عسكري لم تتخلص منه القارة إلا مع بدايات الربع الأخير من القرن الماضي.وكان غاليانو من الفئة التي تربط ما بين أزمة القارة اللاتينية وتأثير الدول الكبرى، وذلك نراه واضحا في كتابه الشهير: "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية" الذي صدر عام 1971، وتم نقل الكتاب إلى العربية على يد أحمد حسان وبشير السباعي، وهو من الكتب التي لم تتوقف دور النشر عن طباعتها، سواء في لغته الأم أو في اللغات التي نقل إليها عبر الترجمة، وتقريبا هي كل اللغات الحية في العالم المعاصر، مع العلم أن السلطات المحلية في مسقط رأسه وبعض دول أميركا اللاتينية كانت قد منعت تداول الكتاب.عُرف غاليانو، في العالم العربي، بكتب أخرى أيضا، مثل كتابه الطريف الذي حقق في تاريخ كرة القدم وتأثيرها على شعوب أميركا اللاتينية، وهو الكتاب المعروف باسم: "كرة القدم في الشمس والظل" الذي ترجمه صالح علماني، وهو من الكتب التي حققت رواجا كبيرا، ليس فقط لأنها تتعلق باللعبة الأشهر في العالم كرة القدم، بل أيضا لأن الكتاب يعتبر فريدا من نوعه لجهة التأليف والتنسيق، خصوصا أن غاليانو أظهر فيه حساً أدبياً ساخراً تمثل بتعليقات طرب لها القراء ودفعتهم لمزيد من احترام هذه الرياضة وتقديرها، وهو كتاب يحقق في تاريخية إقامة المونديالات الكروية وارتباطها بأحداث سياسية وعسكرية كبرى هزت العالم.لقد كان هذا الكتاب جمعا ناردا ما بين موضوع شعبي واسع، وأدوات كتابية محترفة قام غاليانو بتوظيفها كلها لصالح موضوعه المحبب إلى قلوب الجماهير.ومن كتبه الشهيرة التي عرفت على نطاق واسع في مختلف لغات العالم، كتابه الأثير: "ذاكرة النار" الذي نقله إلى العربية أسامه اسبر، وهو من 3 أجزاء مكتوبة بأسلوب يجمع ما بين التحقيق التاريخي والتأليف والنقد الساخر، وهو أمر يندر لدى أوساط المؤلفين، لما في الأمر من خطورة دلالية تتمثل بالنَّيل من رصانة المادة التي يقوم الكتاب على معالجتها، وهي ذات طبيعة تاريخية صرفة، إلا أن غاليانو وبسبب مقدرته على الجمع ما بين لغة الصحافة ولغة التأريخ والبحث، تمكّن من إنجاز كتاب فريد من نوعه يدمج ما بين الأجناس الأدبية إلى الدرجة التي يقول فيها غاليانو نفسه: "لا أعرف إلى أي الأجناس الأدبية ينتمي كتابي هذا.لم يترجم من كتبه إلا القليل إلى اللغة العربية، فقد صدرت له عشرات الكتب، وجلها تم نقلها إلى اللغات العالمية. وأفاد غاليانو من ممارسة الصحافة وتنقله ما بين دول أميركا اللاتينية التي هرب إلى بعضها، ونفي إلى بعضها الآخر، فعمل في الصحافة محرراً وكاتبا وناشراً، بعد صراع مع الأنظمة السياسية – العسكرية في موطنه الأصلي ودخوله السجن، ليستقر على لغة نابعة من قلب التجربة اليومية وعلى خلفية قراءة التاريخ السياسي والاجتماعي والحضاري لدول القارة اللاتينية وعلاقتها بالعصر الاستعماري.لغاليانو ثلاثة أولاد، إلا أنه ترك إرثا متعددا، يبدأ بالعمل الحثيث على موضوعه، ويعبر أتون التجربة الحية بكل تفاصيلها الدقيقة والقاسية، وينتهي بالجمع ما بين لغة التاريخ ولغة الأدب ولغة الوصف الصحافي، التي جعلت إدواردو غاليانو، بحد ذاته، أسلوبا أدبيا مستقلا ومدرسة في التأليف لم تتوقف عند الجنس الأدبي، ولم تتهيّب خوض غمار الجمع ما بين رصانة البحث التاريخي، وسخرية التعبير الأدبي، ولغة الوصف الصحافي.