أن شخصية الإنسان تبنى كل يوم وتتغير باستمرار مع الوقت، تصقلها خبراتنا وتجاربنا مع الآخرين وكذلك انعكاسات هذه التجارب على النفس، ومن المستحيل أن نقول إننا نعرف ذواتنا معرفة جيدة ونهائية كوننا في رحلة مستمرة في هذه الحياة؛ فمخطئ من يعتقد أنه اكتشف ذاته ولا يحتاج لإعادة اكتشافها. باختصار شديد يمكن تلخيص معرفة الذات على أنه (الوقوف مع الذات ومواجهتها بكل بساطة ودون تردد أو خوف، وتقبلها كما هي والسعي الدائم لتنمية إيجابياتها). وكنتيجة لذلك سينسجم الإنسان مع ذاته وسيشعر بالسعادة والرضا.

واقعاً نحن نغرق بين تفاصيل الحياة وروتينها وتغيرنا تحدياتها وعامل الزمن الذي يلقي بظلاله على ذواتنا فلا نعود نعرفها، فتبدأ بعدها رحلة التغرب عن النفس، وما لا يفكر فيه أغلب الناس هو إعادة اكتشاف أنفسهم عن طريق التأمل والتفكر. إن ذلك يتطلب صفاءً ذهنياً وابتعاداً عن الأدوار التي نؤديها كل يوم، ويمكن تحقيق ذلك من خلال السفر لنكون مع ذواتنا فقط بعيداً عن تشتت الأفكار والمشاعر.

ولأن السفر إلى أماكن مختلفة يوسع الأفق والمدارك فإنه بطبيعته يجعل الإنسان متفتحاً ومتأملاً، ينظر إلى الأمور بطريقة جديدة، فكل مكان له مميزاته وخصائصه وطبيعته ما يجعل العقل يفكر بطريقة حرة تخرجه من دائرة المألوف والمعروف. ولكل مكان على سطح الأرض سيكولوجية لها أثر مختلف على النفس باختلاف الأنفس والأمزجة، وبالتالي فما ستجده نفسك في مكان لن تجده في مكان آخر، وما سيجده غيرك ليس بالضروري يتوافق مع رأيك وشعورك والعكس صحيح.

ومن هنا كان السفر وسيلة فعالة للغوص في أعماق الذات واختبار حدودها والكشف عن بواطنها وتقلباتها، ومن الحقائق العلمية المفيدة في هذا الشأن هو نظرة علم النفس الإيجابي إلى موضوع السفر وعلاقته باكتشاف الذات وكذلك دوره في استخراج طاقات الإنسان الكامنة.

وما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار هو أن السفر وحده لا يعتبر وسيلة لاكتشاف الذات أو إعادة اكتشافها إلا في حال واجه الشخص نفسه قبل السفر وحدد أهداف سفره قبل أي شيء. ومن المهم أيضاً أن يعرف الإنسان نظرته لنفسه وماذا يتوقع من تجربة السفر كون مواجهة الذات من الأمور الشديدة الصعوبة على الإنسان بسبب خوفه مما سيكتشفه من حقائق واضحة من غير تجميل أو تزييف ربما سيصعب عليه تقبلها والتعايش معها.

ومن المعروف أن كثيراً من الشخصيات الناجحة في الحياة قد اعتمدت أسلوب مواجهة الذات بصفة مستمرة لمعرفة ما ينقصها من أسلوب تفكير أو مهارات والدأب على تطويرها دائماً، فلا يمكن تطوير الذات قبل اكتشافها بصورة دقيقة، ولا يمكننا أبداً النجاح من غير تطوير وكفاح.