^ الصورة التي كنت كوّنتها عن الإعلام الجديد أو إعلام اليوم لم تغفل أو تنتقص من تأثيره على كلّ منحى من مناحي حياتنا، قياساً على ما مررنا به من تجارب مع الإعلام التقليدي أو قياساً على ما عايشناه من تداخل سياسي واجتماعي واقتصادي وإعلامي على مدى العقود الأربعة أو الخمسة الماضية. لكن ما لمسته بنفسي خلال تجربتين مررت بهما مؤخراً دفعتاني للتفكير بعمق أكبر في ما آل إليه وضعنا، لجهة تفاعل إعلامنا مع واقعنا السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي. خلال الأسابيع القليلة الماضية سعدت بإجراء عدة مقابلات صحفية وكتابة بعض المقالات كما حللت ضيفاً على عدة برامج إخبارية مختلفة من بينها إذاعة وتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية الـ “بي بي سي”(BBC) . سأقولها باختصار لأنني لا أريد التحدث عن هذه التجارب والخبرات بحد ذاتها، وإنما عن التحديات الأوسع التي نواجهها مع الإعلام الجديد بالتحديد، فهي لا تقتصر على الجوانب التكنولوجية في وسائل الإعلام الحديثة، وإنما تشمل أيضاً تحديات “المحتوى” في ما يكتب وينشر ويقال عبر تلك الوسائل بما في ذلك أدوات الإعلام المجتمعي(Social Media). فكم دهشت في إحدى الحالات حين لم تكد المقابلة تنتهي حتى انتقل مضمون تصريحاتي بسرعة البرق عبر المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام الجديدة، واجتذب تعليقات فئات مختلفة من المجتمع. وانتابني الشعور ذاته عندما مررت بتجربة لاحقة غير مقبولة أو حتى مألوفة حين شرع محررو الموقع الإلكتروني للـ “بي بي سي” في عرض خبرهم نقلاً عن إحدى المقابلات التلفزيونية التي أجريتها، ليس ما قلته بالفعل وإنما ما لم أقله، وأبرزوا في عنوان القصة مفردات لم تصدر عنّي فحسب وإنما أيضاً تجنبت ذكرها. ما أريد قوله إنه في حالات معينة لم يكن “الإعلام الجديد” بالضرورة أسرع وأبلغ من التلفزيون وبثه الحيّ المباشر، وإنما أضفى بالتأكيد على الذي قلته أنا، أو الذي يمكن أن يقوله غيري، أبعاداً وإيحاءات جديدة لم نعهدها من قبل، وربما لن نستوعب تأثيرها لوقت طويل قادم. ولكي نستشرف ما سيحدث في المستقبل علينا أن نحلّل بشكل صحيح وقائع الماضي. وفي ضوء ذلك نشخّص الوضع الراهن ونقترح الحلول المناسبة لحالتنا،على الأقل فيما يخص المستقبل القريب، ذلك أن المستقبل الأبعد لا يمكن التكهن به. يجب علينا أولاً أن نستحضر جزءاً من التاريخ لنعرف إلى أين نحن ذاهبون. شهد جيلنا موجات متعاقبة من التغييرات السريعة في العديد من مناحي الحياة، وحصل الشيء ذاته في الإعلام. فخلال العقود الثلاثة الأخيرة شهدنا سلسلة مستجدات ومتغيرات في أنماط ورسائل الاتصال الجماهيري، سواء الإعلام الرسمي أو الخاص، شملت اللغة والمحتوى، وبالتالي أثّرت على القدرة على الاحتواء والتوجيه بما في ذلك قوانين المطبوعات والنشر. كما أثّرت على مدى وسرعة انتشار وسائل الإعلام ورسائلها. قبل ثلاثة عقود، كان الإعلام العربي موجهاً وأحادياً تحكمه قوانين المطبوعات والنشر التي ترى في الإعلام جزءاً من المنظومة الأمنية، إذ كان يتم حماية مباني الإذاعة والتلفزيون بقوات عسكرية منعاً للانقلابات التي غالباً كانت تبدأ من الإذاعة. أمّا في 2011 فقد شهدنا كيف أن التغييرات أو الانقلابات -لنسمها ما شئنا- بدأت في القاهرة مثلاً من ميدان التحرير ومهّدت لها أجهزة الهاتف المحمول الذكية و«اللابتوبات”. الإعلام القديم كان بدأ يتداعى في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية وما تلاها من هجرة الصحافة المطبوعة الخاصة إلى لندن وباريس بهدف أن تتحلل من قيود القوانين والممارسات الرسمية وحتى المجتمعية، مع أن بعضها كان يمول ليكون جزءاً من موروث الحروب الإعلامية والسياسية على الجبهة العربية. نحن في الأردن أمضينا وقتاً طويلاً نتناقش ونحاول أن نكون جزءاً من اللعبة السائدة، لكننا كالعادة تأخرنا ومانزال حتى اليوم غير قادرين على مجاراة ما هو جديد ومستجد في الحضور والمشاركة. على أي حال، أعقبت موجة الصحف المهاجرة ظاهرة صدور الصحف الأسبوعية -التابلويدز- مستفيدة من تحديث قوانين المطبوعات والنشر مطالع التسعينيات -في الأردن على الأقل- والتي سمحت للقطاع الخاص بامتلاك هذا النوع من الإعلام. ثم اكتسى النمط المستحدث صورة غير جذابة، وإن كانت أحياناً شائعة، لما استجد من رصد الأخبار الصارخة أو أحياناً افتعالها. رافق ذلك انتهاك حرية الأفراد الشخصية وخروقات واضحة للقوانين على يد صحافيين صعوداً إلى متنفذين في مراكز سلطة استغلوا صحافة الإثارة لغايات شخصية أحياناً وسياسية أحياناً أخرى. وأعقب ذلك ظهور الفضائيات في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي حاملة معها تغييرات جوهرية في أنماط التواصل ومحتواه وفي تحصيل القوة الإعلامية/ السياسية، التي جعلت البعض يشبهها بقنابل نووية صغيرة من حيث قوّة تأثيرها في الردع السياسي. في البداية لعبت قنوات إخبارية -كقناة “سي أن أن”- دوراً رئيساً في حرب الخليج الأولى مثلاً، حتى ظن البعض أن الحرب تتم عبر برنامج 24 ساعة وتحبك خيوطها على الأثير، ساعدها على ذلك توالي الأزمات والحروب التي شاركت بها قوى دولية من حرب الخليج إلى هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وتداعياتها، حتى إذا جاء “الربيع العربي” كانت الفضائيات بما فيها الناطقة بالعربية حاضرة بقوة اجتياح وتأثير مضاعفة مئات المرات. فبعضها تستخدمها جهات متمكنة مالكة لقنوات إعلامية ضخمة وجاهزة لتعبئة الرأي العام بهدف خدمة مصالحها وغاياتها المختلفة. في جلسة حوارية خلال فعاليات الدورة القادمة لمنتدى الإعلام العربي، والمزمع عقده في دبي خلال أيام، سيناقش المنتدون أداء القنوات الإخبارية العربية والدولية، خصوصا خلال التحولات الكبرى التي شهدتها وتشهدها أمتنا وأقطارنا العربية، وما تعرضت له غالبية هذه القنوات من امتحانات مهنية صعبة خلال تغطيتها وتفاعلها مع هذا الحراك السياسي والاجتماعي الأهم منذ سنين وعقود في منطقتنا العربية. في ظل ما استقطبته بعض القنوات من ملايين المشاهدين وأيضا في ظل ما واجهته من معوقات كبيرة بالعمل الميداني، ومخاطر تعرض لها المراسلون، وكذلك التشويش المتعمد الذي تعرض له بث بعض القنوات، يحدونا جميعاً الأمل في أن يتوصل المشاركون -كما وعدنا منظمو المنتدى- إلى استنباط أجوبة شافية حيال المسؤولية عن حوادث وأخطاء مهنية وقعت بها بعض القنوات في التحقق من المصادر والمعلومة، وما إذا كان بعضها يقع في إطار الهفوات المهنية أم هي أجندة مدروسة كجزء من سياستها وخطها التحريري. الحلقة الثالثة في المستجدات الإعلامية السريعة لدى جيلنا تجسد بولادة “الإعلام الجديد”، ابتداء بالمواقع الإلكترونية الإخبارية وصحافة المواطن(Citizen Journalism) المتمثلة بالمدونات والتعليقات، مروراً بوسائل الإعلام المجتمعي وانتظاراً لفورة الهواتف الذكية التي أضحى الجهاز منها مجموعة إعلامية واتصالية متكاملة بآفاق تقنية لا حدود لها وإن ما زالت في بداياتها. هذا الإعلام الجديد بأدواته وبلغته المختلفة التي لا يتقنها الجيل السابق من الإعلاميين أو السياسيين، نزعت عن الإعلام صفة الصناعة المعقدة المكلفة. والأهم من ذلك أنها أخرجته من دائرة السيطرة المركزية للحكومات أو للشركات متعددة الجنسية العابرة للحدود. فالإنترنت ألغت جدوى ومنطق وإمكانية السيطرة والتحكم بالإعلام، قانونياً وإجرائياً (فكيف يمكن السيطرة على تغريدات ملايين من مستخدمي التويتر مثلاً؟) ولتصبح قاعدة قياس الأداء هي السرعة والانفتاح الكامل في توصيل المعلومات والآراء. يتناقض ذلك مع قواعد نشر الأخبار في وكالات الأنباء العالمية: الدقة تسبق السرعة. شاهد القول هو أن جيلنا عايش متغيرات جوهرية في الإعلام وسائل ورسائل وضوابط وتقنيات أمست معها سيطرة الدول والحكومات عليها سيطرة بائدة منهجياً ومستحيلة فنياً. وظهرت تحديات جديدة كبرى وأصبح الاحتكام الآن ومستقبلاً للكفاءة في استخدام تقنيات الاتصال الجماهيري وفي إعطائه المحتوى التنافسي الذي يريد المواطن العادي معرفته والمشاركة في صنعه أياً كان موقعه الجغرافي أو الاجتماعي. أولى هذه التحديات وجود إرادة لخوض المنافسة بالأدوات الجديدة وتأهيل الإعلاميين والفنيين لهذه المهمة الثقيلة. ثانيها، موضوع العلاقة بين رأس المال وبين الكوادر التشغيلية للماكينة الإعلامية. وهي أيضاً مسألة فائقة الأهمية نواجهها نحن كما تواجهها المؤسسات الإعلامية الدولية العريقة، وذلك من أجل أن يكون للإعلام هامشه الخاص المتميز. ولنا في فضائيات عربية وغير عربية معروفة أوضح مثال. بمعنى آخر، توصلنا الى استنتاج أن ليس هناك حلول سحرية لمشاكلنا مع الإعلام وإنما مجموعة حلول كهذه، والتي يجب أن نأتي على ذكرها أو حتى نتوسع في تحليلها في مجالات عديدة على رأسها قضية ملكية وسائل الإعلام. كل هذا الذي استجد على الإعلام وغيّر أدواته ولغته ووظيفته أخذ يفرض تحديات جديدة مفتوحة للاجتهاد والإبداع. فلم يعد بالإمكان التحكم بالإعلام من خلال قوانين النشر الحكومية أو أي من المقيدات التقليدية التي تضاءلت سطوتها ونشأت إلى جانبها اعتبارات جديدة ينبغي علينا أن نأخذها بالحسبان. ولذلك فإن مهمتنا في هذا المجال الذي يجتاحنا بسرعة وبمعطيات متجددة هو أن ندرك أن الحكومات ما عادت تستطيع التحكم بالإعلام من خلال الضوابط والمقيدات، وأن عليها الاقتناع بأن الإعلام صناعة خدماتية تنافسية للقطاع الخاص في المقام الأول. وحتى تكون صناعة بمواصفات خدمية تنافسية في فضاءات عالمية مفتوحة فإنها تستدعي، مع كفاءة المحتوى، أن يكون المتلقون من المواطنين محصنين بثقافة ديمقراطية منفتحة متجددة على الحوار والمشاركة. ومثل ذلك في الأهمية أن تكون الحكومات شفّافة نزيهة تقر بحق الإعلام -كسلطة رابعة حقيقية- في الحصول على المعلومة ورقابته على الأداء الحكومي وكذلك البرلماني. أما عن مفهوم “السيطرة” على الإعلام الجديد، فعدا عن أنه غير ممكن تقنياً، فهو مخالف تماماً لمتطلبات العصر الحديث ومفهوم المشاركة، والحوار والنزاهة من قبل جميع الأطراف. نستذكر فشل محاولات جامعة الدول العربية لتنظيم الإعلام العربي عبر إنشاء مفوضية للإعلام العربي أو تقديم مشاريع لميثاق شرف إعلامي عربي بهدف تقييد دور الإعلام العربي في العقد الماضي لأن الهدف منها كان رقابياً بحتاً. ولو كان الهدف من تلك المفوضية بحثي وعلمي للارتقاء بمستوى ومضمون الرسالة الإعلامية العربية، لكانت القصة والنتيجة مختلفة تماماً. وكذلك كانت الحال في دول أوروبية مثل المملكة المتحدة، حين اضطر رئيس الوزراء ديفيد كاميرون العام الماضي لحل لجنة البت بالشكاوى المتعلقة بالممارسات الصحفية (Press Complaints Commission) بعد فشلها الذريع، رغم “استقلاليتها”، ضمن الميثاق الاجتماعي ونظام النزاهة، في منع أو معالجة تورط محرري صحف في فضيحة التنصت على الناس التي أدت في النهاية إلى إغلاق صحيفة (News of the World) ومحاكمة متورطين فيها. أمّا الإعلام خارج الوطن فبناء تشاركية بينه وبين العقل الغربي قد يكون تسليماً بالأمر الواقع في غياب الخطاب العربي المستقل. آن الأوان والحال هذه لتقليل الحديث عن سلطات رقابية أو قوانين جديدة إضافية للسيطرة على إعلام لا يمكن معالجة مشاكله إلا من خلال حلول ابتكارية، ليست بسحرية بل تحتاج إلى وقت ومثابرة. فالـ (بي بي سي) على سبيل المثال، رغم تجربتي السلبية مع موقعها الإلكتروني -كما ذكرت- قدّمت نموذجاً عملياً في اقتراح حلول ناجحة لأسئلة إعلامية صعبة، وبالتحديد عندما أعطت، في زحمة الانشغال بأحداث عالمية عنيفة وكبيرة ومنها الربيع العربي، صدارة نشراتها لزواج الأمير ويليام، فاستثارت انتقادات قاسية جداً لم تتجاهلها بل شذّبت قسوتها ونشرتها كما نشرت المشاركات الإيجابية والإشادات بهذا الاجتهاد. أعطت الـ “بي بي سي” من خلال تغطيتها المتوازنة تلك -ولا أقول الشافية والوافية- مثالاً لغيرها في طريقة التعامل مع المواطنين / الصحافيين (أصحاب الأصوات العالية والتعليقات والمدوّنين) وغيرهم من دون أن تغامر بمصداقيتها التي بنتها على مدار ثمانية عقود. من الثابت أن الإعلام العربي يفتقر إلى رصيد معرفي عربي. فالعرب منقسمون إلى أقطار وأقليات، وإعلامهم كذلك. ولكن من الظلم أن نحّمل الإعلام العربي مسؤولية الأزمات التنموية والسياسية المتراكمة في مجتمعاتنا العربية أو في أي من دولنا، خصوصاً تلك التي شهدت وتشهد ثورات وانتفاضات، فهذه انعكاسات لأزمات سياسية واجتماعية وبنيوية مستعصية مردّها في كثير من الأحيان غياب المؤسسية الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات ومنظومات النزاهة والحاكمية الراشدة، فضلاً عن تغول السلطات الأخرى عليها بم فيها الأجهزة الأمنية. الإعلاميون أنفسهم يقرون بوجود العديد من السلبيات والتجاوزات الصحافية. وعليه نأمل جميعاً أن يقوموا بمعالجتها، وبالتحديد تلك التي تعتري عملهم من الداخل، من خلال تعزيز أدوات التنظيم الذاتي للمهنة، وبالتالي يقدمون القدوة لزملائهم وأقرانهم في الإعلام المجتمعي والمواطني. أضيف هنا مرة أخرى اعتماد الحكومة مبدأ النزاهة والشفافية في التعامل مع المواطن، واحترام حق المواطن وحريته في المشاركة الفاعلة في الحكم. وهذا بدوره يثري مفهوم “الحاكمية الراشدة” التي تتأتّى بمشاركة جميع أطراف الحوار، فتقّر الحكومات بدور “المواطن الصحفي” والإعلاميين بصنوفهم، وتركّز جهدها على العمل الدؤوب النزيه بعيداً عن الإثارة والبلبلة. نحتاج إلى استثمار كبير في التربية والتعليم والتثقيف كما في الإعلام، إضافة إلى تكريس مفهوم النزاهة في الحكم واحترام واجبات المواطنة ومسؤولياتها. فكما على الحكومات أن تكون مسؤولة أمام الشعب، وأن تحترم حقوقه كاملة غير منقوصة، كذلك على الفرد -إن كان عاملاً أو موظفاً أو أياً كان موقعه- أن يكون ملتزماً بواجباته تجاه المجتمع خصوصاً في الأوقات الصعبة والعصيبة كالتي تشهدها الدول العربية المتجهة صوب الإصلاح والتحول السلمي الديمقراطي
نحو تشابكية جديدة بين الإعــلام العربي والمعرفة
27 مايو 2012