الرحالة النمساوي ليوبولد فايس كان مختلفاً عن الجميع. لم يسافر فقط في البلدان، بل قام برحلة عمره في الإسلام وديار المسلمين. يروي بنفسه كيف اهتدى إلى الإسلام وهو عائد ذات يوم إلى منزله في «مترو» مدينة برلين. قبل ذلك أريد أن أنوّه، بأنني كنت شديد الاعتماد في هذه السلسلة، على «عالم أرامكو» الإنجليزية، إحدى أهم وأعظم مصادر التراث.
«في يوم من أيام شهر سبتمبر من عام 1926. وجدنا أنفسنا، إيلسا وأنا، مسافرين في قطار الأنفاق، وتحديداً في مقصورة الدرجة الأولى. وما لبث أن وقعت عيني على رجل حسن المظهر واللباس يجلس في الجهة المقابلة، ويبدو أنّه رجل أعمالٍ مهمّ. وفكّرت في نفسي كم أنّ شكل هذا الرجل يناسب صورة الرفاه التي يجدها المرء في كلّ مكان في أوروبا الوسطى في هذه الأيّام. فمعظم الناس يرتدون اللباس الجيّد ويحصلون على التغذية الحسنة، وبالتالي، فإن هذا الرجل أمامي لم يكن استثناءً لذلك. ولكن حين نظرت إلى وجهه، لم يبدُ لي أنّه وجه رجل سعيد، بل بدا لي أنّ الرجل قلق، وليس قلقاً بشكلٍ سطحيّ، بل إنه غير سعيد في العمق، وعيناه فارغتان تتطلعان ولا تريان، وزاويتا فمه مرفوعتان وكأنه في وجعٍ، إنما وجعٍ غير جسديّ. لم أرد أن أبدو فضولياً، فصرفت نظري عنه وانتقلت إلى المرأة الأنيقة الجالسة إلى جانبه. ولاحظت أنّ تعابير وجهها أيضاً كانت حزينة، وكأنها تتأمّل أو تختبر أمراً يؤلمها. ومن ثمّ، رحت أجول بنظري على سائر الوجوه في المقصورة، وهي وجوه تنتمي من دون استثناء إلى أشخاصٍ حسني المظهر وحاصلين على تغذية جيدة: وتقريباً في كلّ وجه كنت أميّز تعابير تنم عن معاناة مختبئة، مختبئة لغاية أنّ صاحب الوجه نفسه يبدو غير مدركٍ وجودها.
وكان وقع هذا الأمر قويّاً عليّ لدرجة أنني ذكرته لإيلسا، فبدأت بدورها تراقب من حولها بعينيها الثاقبتين، عيني الرسّامة المعتادة على تحليل ملامح الوجوه. وسرعان ما عادت لتنظر إليّ مندهشة، وقالت: «أنت على حقّ. يبدو على كلّ شخص وكأنه يعاني عذابات الجحيم... أتساءل، هل يعلمون بأنفسهم ما يحدث في دواخلهم؟».
أما أنا، فكنت أعلم أنهم غير مدركين ما يحدث فيهم، لأنهم لو علموا، لما كانوا يستمرّون في تبديد حياتهم كما يفعلون، من دون أي إيمانٍ بحقائق تربطهم، من دون أي هدفٍ أبعد من رفع «مستوى عيشهم»، من دون أي آمال عوض عن اكتساب المزيد من وسائل الراحة الماديّة، والمزيد من الأغراض، وربّما المزيد من القوة.
وحين عدنا إلى المنزل، وقع نظري على مكتبي، حيث كنت قد تركت نسخة مفتوحة من القرآن كنت أقرأها في وقت سابق من النهار. فحملت الكتاب تلقائيّاً لأضعه جانباً، وقبل أن أغلقه، لفتت نظري بعض الآيات في الصفحة المفتوحة، فقرأتها. وللحظة، حبست أنفاسي، وأعتقد أن الكتاب رجف في يديّ. ومن ثمّ، ناولته إلى إيلسا، وقلت لها اقرأي هذا: أليس جواباً على ما رأيناه في القطار؟».
إلى اللقاء...
* كاتب وصحافيّ لبناني - نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية
«في يوم من أيام شهر سبتمبر من عام 1926. وجدنا أنفسنا، إيلسا وأنا، مسافرين في قطار الأنفاق، وتحديداً في مقصورة الدرجة الأولى. وما لبث أن وقعت عيني على رجل حسن المظهر واللباس يجلس في الجهة المقابلة، ويبدو أنّه رجل أعمالٍ مهمّ. وفكّرت في نفسي كم أنّ شكل هذا الرجل يناسب صورة الرفاه التي يجدها المرء في كلّ مكان في أوروبا الوسطى في هذه الأيّام. فمعظم الناس يرتدون اللباس الجيّد ويحصلون على التغذية الحسنة، وبالتالي، فإن هذا الرجل أمامي لم يكن استثناءً لذلك. ولكن حين نظرت إلى وجهه، لم يبدُ لي أنّه وجه رجل سعيد، بل بدا لي أنّ الرجل قلق، وليس قلقاً بشكلٍ سطحيّ، بل إنه غير سعيد في العمق، وعيناه فارغتان تتطلعان ولا تريان، وزاويتا فمه مرفوعتان وكأنه في وجعٍ، إنما وجعٍ غير جسديّ. لم أرد أن أبدو فضولياً، فصرفت نظري عنه وانتقلت إلى المرأة الأنيقة الجالسة إلى جانبه. ولاحظت أنّ تعابير وجهها أيضاً كانت حزينة، وكأنها تتأمّل أو تختبر أمراً يؤلمها. ومن ثمّ، رحت أجول بنظري على سائر الوجوه في المقصورة، وهي وجوه تنتمي من دون استثناء إلى أشخاصٍ حسني المظهر وحاصلين على تغذية جيدة: وتقريباً في كلّ وجه كنت أميّز تعابير تنم عن معاناة مختبئة، مختبئة لغاية أنّ صاحب الوجه نفسه يبدو غير مدركٍ وجودها.
وكان وقع هذا الأمر قويّاً عليّ لدرجة أنني ذكرته لإيلسا، فبدأت بدورها تراقب من حولها بعينيها الثاقبتين، عيني الرسّامة المعتادة على تحليل ملامح الوجوه. وسرعان ما عادت لتنظر إليّ مندهشة، وقالت: «أنت على حقّ. يبدو على كلّ شخص وكأنه يعاني عذابات الجحيم... أتساءل، هل يعلمون بأنفسهم ما يحدث في دواخلهم؟».
أما أنا، فكنت أعلم أنهم غير مدركين ما يحدث فيهم، لأنهم لو علموا، لما كانوا يستمرّون في تبديد حياتهم كما يفعلون، من دون أي إيمانٍ بحقائق تربطهم، من دون أي هدفٍ أبعد من رفع «مستوى عيشهم»، من دون أي آمال عوض عن اكتساب المزيد من وسائل الراحة الماديّة، والمزيد من الأغراض، وربّما المزيد من القوة.
وحين عدنا إلى المنزل، وقع نظري على مكتبي، حيث كنت قد تركت نسخة مفتوحة من القرآن كنت أقرأها في وقت سابق من النهار. فحملت الكتاب تلقائيّاً لأضعه جانباً، وقبل أن أغلقه، لفتت نظري بعض الآيات في الصفحة المفتوحة، فقرأتها. وللحظة، حبست أنفاسي، وأعتقد أن الكتاب رجف في يديّ. ومن ثمّ، ناولته إلى إيلسا، وقلت لها اقرأي هذا: أليس جواباً على ما رأيناه في القطار؟».
إلى اللقاء...
* كاتب وصحافيّ لبناني - نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية