يقولون في تحليل الإبداع، إن الفرق بين عازف عود وآخر يكمن في قدرته على إخفاء صوت احتكاك صوت الريشة على الأوتار، تلك الثنائية تصنع النغمة، إلا أن صفاءها يتحقق فقط عندما يختفي إحساسك بالريشة، التي من الممكن أن تعتبرها معادلا موضوعيا للصنعة في الفن.
لا يخلو أي عمل فني من هذا الهامش. المبدع الموهوب هو الذي يستطيع أن يمنحك الإحساس بالتلقائية المفرطة، وهذا هو مع الأسف ما افتقدته تحديدا في مسلسل "نسل الأغراب".
كنت دائما أستمع وأرى طوال أحداث المسلسل صخب الريشة، بل بدقة أكثر إزعاجها. إنها الصنعة الصاخبة التي تجعلنا بصدد شخصيات كرتونية فاقدة الروح، لا نستطيع حقيقة أن نصدقها أو نتعاطف معها أو في الحد الأدنى نتقبل دوافعها.
الكاتب والمخرج محمد سامي قدم لنا شيئا أقرب لمعادلة هندسية، كل التفاصيل مقسومة على اثنين. تلك هي الرؤية العددية التي سيطرت على مقدرات المسلسل، ويبدو وكأن سامي يخلق معادلة الصراع التي يقف فيها كل طرف في مواجهة الآخر، ودائما تكتشف أنهما في حالة استنفار لبدء التراشق، ينتظر كل منهما ساعة الصفر ليسارع بالانقضاض على غريمه. المخرج راعى الدقة الرقمية الشديدة في اختيار موازين القوى التي تتجسد هنا وهناك، فتحول الأمر إلى مجرد "ضجيج بلا طحن".
أحمد السقا وأمير كرارة، أبناء عم بينهما معركة انتقام رغم أنهما كانا أصدقاء منذ الطفولة، وكأنه بصدد صراع داخلي تعانيه شخصية واحدة، إلا أنه أمام ضرورة نسج الحالة الدرامية أحاله إلى شخصين، تزوجا نفس المرأة مي عمر، الأول هو أحمد السقا وأنجب منها أحمد مالك، والثاني أمير كرارة وأنجب منها أحمد داش.
السقا برأسه الصلعاء تماما وجزء من أسنانه مغطى بالفضة، بينما أطلق كرارة لشعر لحيته العنان، وكل منهما يتعمد زيادة نبرة الصراخ في صوته ويسارع بضخ قسط وافر من مساحات الغضب في نظرات العين. كرارة خطف زوجة السقا، واستطاع أن يمتلك عقل ابنه لكي يكره أباه ويستبدله به، بينما السقا خطف أم كرارة كرهينة، كل منهما أصاب الآخر في مقتل، ولا بديل سوى الثأر الدموي.
القسمة على اثنين تؤكد أن مي عمر أيضا منقسمة في مشاعرها، قلبها موزع بين الجانبين، والسؤال من تختار؟!
يبدو أن الجمع بين النجمين اللذين ارتبطا بأفلام الأكشن، منح سامي قدرا من الاطمئنان أنه سيحقق "تريند" المشاهدة الأعلى. نجم واحد يكفي لكي يتابعه الجمهور فما بالكم باثنين؟ فهل كانت تلك هي الحقيقة أم أن هناك تراجعا جماهيريا حتى عن آخر مسلسل قدمه المخرج في رمضان الماضي "البرنس"؟ قناعتي أن الإجابة الثانية هي الصحيحة.
ما الذي طرحته الدراما حتى الآن وقد اقترب رمضان من نهايته، سوى أن طبول المعركة لا تتوقف عن إثارة الصخب، والكل يتحسس مناطق القوة التي في حوزته، ونكتشف أن ثراء كرارة المفرط ورائه تجارة بالمخدرات، وكالعادة يضاف "الشيء لزوم الشيء" أقصد الغجر الذين يعيشون على الحواف والحدود الفاصلة، وبالطبع تقديم ليالي ساهرة وساخنة وماجنة، صارت الممثلة نجلاء بدر هي "الراكور" الثابت، أشاهدها دائما في هذا الدور رغم عدم قدرتها على الرقص، كالعادة فإن هناك بعض الفنانين أصبحوا في أدائهم أقرب إلى "الكليشيه"، ونجلاء بدر نموذج صارخ للأداء الثابت.
نشاهد كرارة كثيرا مع أسد، يداعبه ويتبادلان النظرات وكأنه يذكرنا بأنه هو هذا الأسد في القفص، أخذ الكثير من ملامحه، بينما من الممكن اعتبار السقا في هذه الحالة هو التمساح.
المسلسل يتحرك دائما وفي ذهن كاتبه ومخرجه البحث عن ذروة الصراع وهو يتابع جمهوره المنتظر دوما لمزيد من العنف. هناك مرحلة التشبع التي ما أن يصل إليها حتى يتوقف كل شيء، وهي معركة صفرية الأسد والتمساح فيها خاسران.
ما الذي يجري أمام الكاميرا؟ كل من النجمين لجأ للمبالغة في التعبير، ليقول أنا حقا المنتصر بالنظرة والنبرة والحركة. لا تستطيع أن تحدد من هو الفائز لأنهما ابتعدا عن معنى التشخيص. كان ينبغي أن يظل هناك شيء مضمر في التعبير، ومع الأسف لم نره، ومع تكرار هذا النوع من الصراع الحاد يألف المتفرج هذه المعارك وتفقد قدرتها على الجذب، ويخسر الاثنان أمام الكاميرا.
وتبقى فكرة أن يسند مخرج دور البطولة لزوجته، مي عمر، نظريا لا غبار عليها، على شرط ألا يعتبرها قاعدة، لأن هذا بالطبع يقف ضد اكتشاف الجديد. مشكلة مي هذه المرة ليست أنها زوجة المخرج، لكن لأنها كانت تؤدي كل مشاهدها على الأقل حتى كتابة هذه السطور وهي كما يقولون باللهجة المصرية "على سنجة عشرة"، مكياج كامل، كلها تقع في إطار مسؤولية المخرج، لا أنكر حقها في العمل مع زوجها، إلا أن هذا الحق محاط أيضا بضرورة ألا يتكرر الأمر كثيرا وأن يصبح الدور ملائما لها جسديا وعمريا ونفسيا، ولا أظن أنها كانت الاختيار الصحيح في دور "جليلة".
المسلسل أراه درسا عمليا لكل المشاركين، يؤكد أن العمل الفني يجب أن يخضع لمنطق ودراسة، ومهما كان رصيد المخرج السابق وأسماء النجوم فإن مفتاح النجاح هو أولا في المنطق الدرامي الغائب تماما عن "نسل الأغراب". كان صوت الريشة أعلى كثيرا من صوت النغمة، ليخرج في النهاية الأسد والتمساح من الحلبة في تلك المعادلة الصفرية مهزومان مثخنان بالجراح!
لا يخلو أي عمل فني من هذا الهامش. المبدع الموهوب هو الذي يستطيع أن يمنحك الإحساس بالتلقائية المفرطة، وهذا هو مع الأسف ما افتقدته تحديدا في مسلسل "نسل الأغراب".
كنت دائما أستمع وأرى طوال أحداث المسلسل صخب الريشة، بل بدقة أكثر إزعاجها. إنها الصنعة الصاخبة التي تجعلنا بصدد شخصيات كرتونية فاقدة الروح، لا نستطيع حقيقة أن نصدقها أو نتعاطف معها أو في الحد الأدنى نتقبل دوافعها.
الكاتب والمخرج محمد سامي قدم لنا شيئا أقرب لمعادلة هندسية، كل التفاصيل مقسومة على اثنين. تلك هي الرؤية العددية التي سيطرت على مقدرات المسلسل، ويبدو وكأن سامي يخلق معادلة الصراع التي يقف فيها كل طرف في مواجهة الآخر، ودائما تكتشف أنهما في حالة استنفار لبدء التراشق، ينتظر كل منهما ساعة الصفر ليسارع بالانقضاض على غريمه. المخرج راعى الدقة الرقمية الشديدة في اختيار موازين القوى التي تتجسد هنا وهناك، فتحول الأمر إلى مجرد "ضجيج بلا طحن".
أحمد السقا وأمير كرارة، أبناء عم بينهما معركة انتقام رغم أنهما كانا أصدقاء منذ الطفولة، وكأنه بصدد صراع داخلي تعانيه شخصية واحدة، إلا أنه أمام ضرورة نسج الحالة الدرامية أحاله إلى شخصين، تزوجا نفس المرأة مي عمر، الأول هو أحمد السقا وأنجب منها أحمد مالك، والثاني أمير كرارة وأنجب منها أحمد داش.
السقا برأسه الصلعاء تماما وجزء من أسنانه مغطى بالفضة، بينما أطلق كرارة لشعر لحيته العنان، وكل منهما يتعمد زيادة نبرة الصراخ في صوته ويسارع بضخ قسط وافر من مساحات الغضب في نظرات العين. كرارة خطف زوجة السقا، واستطاع أن يمتلك عقل ابنه لكي يكره أباه ويستبدله به، بينما السقا خطف أم كرارة كرهينة، كل منهما أصاب الآخر في مقتل، ولا بديل سوى الثأر الدموي.
القسمة على اثنين تؤكد أن مي عمر أيضا منقسمة في مشاعرها، قلبها موزع بين الجانبين، والسؤال من تختار؟!
يبدو أن الجمع بين النجمين اللذين ارتبطا بأفلام الأكشن، منح سامي قدرا من الاطمئنان أنه سيحقق "تريند" المشاهدة الأعلى. نجم واحد يكفي لكي يتابعه الجمهور فما بالكم باثنين؟ فهل كانت تلك هي الحقيقة أم أن هناك تراجعا جماهيريا حتى عن آخر مسلسل قدمه المخرج في رمضان الماضي "البرنس"؟ قناعتي أن الإجابة الثانية هي الصحيحة.
ما الذي طرحته الدراما حتى الآن وقد اقترب رمضان من نهايته، سوى أن طبول المعركة لا تتوقف عن إثارة الصخب، والكل يتحسس مناطق القوة التي في حوزته، ونكتشف أن ثراء كرارة المفرط ورائه تجارة بالمخدرات، وكالعادة يضاف "الشيء لزوم الشيء" أقصد الغجر الذين يعيشون على الحواف والحدود الفاصلة، وبالطبع تقديم ليالي ساهرة وساخنة وماجنة، صارت الممثلة نجلاء بدر هي "الراكور" الثابت، أشاهدها دائما في هذا الدور رغم عدم قدرتها على الرقص، كالعادة فإن هناك بعض الفنانين أصبحوا في أدائهم أقرب إلى "الكليشيه"، ونجلاء بدر نموذج صارخ للأداء الثابت.
نشاهد كرارة كثيرا مع أسد، يداعبه ويتبادلان النظرات وكأنه يذكرنا بأنه هو هذا الأسد في القفص، أخذ الكثير من ملامحه، بينما من الممكن اعتبار السقا في هذه الحالة هو التمساح.
المسلسل يتحرك دائما وفي ذهن كاتبه ومخرجه البحث عن ذروة الصراع وهو يتابع جمهوره المنتظر دوما لمزيد من العنف. هناك مرحلة التشبع التي ما أن يصل إليها حتى يتوقف كل شيء، وهي معركة صفرية الأسد والتمساح فيها خاسران.
ما الذي يجري أمام الكاميرا؟ كل من النجمين لجأ للمبالغة في التعبير، ليقول أنا حقا المنتصر بالنظرة والنبرة والحركة. لا تستطيع أن تحدد من هو الفائز لأنهما ابتعدا عن معنى التشخيص. كان ينبغي أن يظل هناك شيء مضمر في التعبير، ومع الأسف لم نره، ومع تكرار هذا النوع من الصراع الحاد يألف المتفرج هذه المعارك وتفقد قدرتها على الجذب، ويخسر الاثنان أمام الكاميرا.
وتبقى فكرة أن يسند مخرج دور البطولة لزوجته، مي عمر، نظريا لا غبار عليها، على شرط ألا يعتبرها قاعدة، لأن هذا بالطبع يقف ضد اكتشاف الجديد. مشكلة مي هذه المرة ليست أنها زوجة المخرج، لكن لأنها كانت تؤدي كل مشاهدها على الأقل حتى كتابة هذه السطور وهي كما يقولون باللهجة المصرية "على سنجة عشرة"، مكياج كامل، كلها تقع في إطار مسؤولية المخرج، لا أنكر حقها في العمل مع زوجها، إلا أن هذا الحق محاط أيضا بضرورة ألا يتكرر الأمر كثيرا وأن يصبح الدور ملائما لها جسديا وعمريا ونفسيا، ولا أظن أنها كانت الاختيار الصحيح في دور "جليلة".
المسلسل أراه درسا عمليا لكل المشاركين، يؤكد أن العمل الفني يجب أن يخضع لمنطق ودراسة، ومهما كان رصيد المخرج السابق وأسماء النجوم فإن مفتاح النجاح هو أولا في المنطق الدرامي الغائب تماما عن "نسل الأغراب". كان صوت الريشة أعلى كثيرا من صوت النغمة، ليخرج في النهاية الأسد والتمساح من الحلبة في تلك المعادلة الصفرية مهزومان مثخنان بالجراح!