د. حياة عبدالله يوسف
"دكتورة، بدأت أخشى التخصص لأني لا أجيد التعلم أونلاين وبات أدائي سيئاً في أثناء الجائحة".
"دكتورة، تخصص الهندسة الكيميائية صعب في ظل الظروف العادية فمال بالك ِبه "أونلاين!"
"دكتورة، دراسة هذا التخصص عن بعد لا تصلح لي!"
هذا جزء مما يتردد على مسمعي بصيغة أو بأخرى، بين الحينِ والآخر.
دفعتني تلك الهواجس لأنكفئ على ذاتي وألبس ثوب الطالب مجدداً، وإن لم أخلعه يوماً.
وجدت نفسي بين صفوف دراسة الهندسة الكيميائية عن بعد، فلم أعِ أكان التعلم أزمةً أخرى لنا في ظل أزمة كورونا؟ أم كان فرصةً للقول: "الحاجة أم الاختراع"؟ هل غرقنا بين أمواج الأزمة المتلاطمة أم رفعنا شعار التميز رغم التحديات؟ هل تركنا المياه تأخذنا أينما شاءت وكيفما بغت؟ أم أبحرنا بسلم وسلام؟ أخذتنا ظروف الجائحة إلى تغييراتٍ عدة في نمط حياتنا وطرائق تعلمنا لما حولنا، فهل كان ذلك كرهاً لنا؟
فهذا "أحمد" -أحد الشخوص المحتملة لهذا المشهد- يردد: ربما لم تكن طريقة التعلم عن بعد جلية لي في بادىء الأمر، أو ربما لم أكن أعي كيف أختار طريقي للتعلم، كان قراراً خارجاً عن إرادتي وربما بعيداً عن رغبتي أن أجلس بين أربعة جدران، وأتلقى العلوم عبر هاتفي، أو جهازي المحمول، كنت أشعر مراراً أنني لست أنا، فلم أعهد أن أستمع إلى أستاذي من خلف ستار، ولم أعتد أن أتحسس الكلمات والمشاعر عبر سطور، ولم أعِ أن صِيَغ التعبير قد تكون وقد لا تكون واضحة ومفهومة للآخرين بهذا القدر، وإن بدأنا نتوق لتقريب المسافات شيئاً فشيئاً بيننا كمتعلمين، باختلاف طرائق تعلمنا وشخصياتنا وبين من حولنا من معلمين، باختلاف طرائق تفكيرهم وطرائق تدريسهم. نعم، لم يكن الأمر سهلاً. بدأت أشعر أن الكونَ قد تغير، وأن ساعات الإجبار على التغير قد بدأت. ربما كنت سبباً في أن أقع في أزمة جهلي بما حولي. كيف لي أن أواكب التغيير؟ لم يكن في الحسبان أن منا من يمقت التقنيات الحديثة، وآخر لا يجد لمسك الورقة والقلم بديلاً، وذاك غرق في سوء استخدام معلمه تلك الوسائل، فباتت تحدياً لقدرات الطالب لا أداةً لتقييمه. لا أبالغ أن منا من تعرض لأزمات نفسية واكتئاباتٍ متتالية، موجٌ متلاطمٌ بين مدٍ وجزر. أخذ يجول بنا هنا وهناك. ضحيتها إما علمٌ لم تكتمل عناصره، أو درجاتٌ فقدتها بين هذا وذاك، أو الاثنان معاً. تبعهم الشعور بأن "العوض على الله".
وهذا "عليٌ" -احتمالٌ آخرٌ للحدثِ ذاته- يشاطر أحمد الحديث ويتفق أنها لم تكن تجربة اعتيادية، ولكنه وجدها مفتاحاً لأفقٍ آخر. حارب التحدي وتعلم كثيراً، ولكنه مازال ساخطاً على مجريات التغيير، ليس لعدم قدرته على التغيير، بل -على الأغلب- لعدم قدرته على تغيير ما حوله، ارتأى أن يصنع ما بوسعه فحسب. ربما كسر حواجز وتخطى عقباتٍ، ولكنه مازال يجول حول نفسه، قد دفعته تلك التجربة لاكتشاف نفسه من الداخل، وتطوير قدراته ومهاراته في التخصص، فأدرك أن خلفيته العلمية في الرياضيات والعلوم ليست كافية لهذا التخصص، فإن لم تدفعه سنته الأولى في التخصص لتطوير مهاراته العملية في الكمبيوتر وعلوم التكنولوجيا شاءت كورونا أن ترغمه أن يكون على مقربةٍ منها. فحتماً كان لكورونا فضل في تطوير مهاراته في إدارة الوقت والتعلم الذاتي، وإن كانت بطريقة مختلفة عما كانت عليه قبل الجائحة، ولكنه رأى أنّ العمل الجماعي وفريق العمل الواحد أحد المهارات التي أخذت نصيباً متواضعاً في مساره في أثناء الجائحة؛ إذ لم يكن عليه يسيراً تنميتها، بل ربما أخذ مفهوم فريق العمل الواحد انحرافاً إلى غير محله لدى بعض أقرانه في التخصص، كحل أسئلة الامتحانات الفردية معاً في ظل ضعف بعض أساليب التقييم ومراقبتها، وخاصة مع بدء الجائحة. أضف إلى ذلك ما التمسه من محدودية الأنشطة المتعلقة بتمنية المهارات العملية في المختبرات التي كانت ومازالت هاجساً لمدرسي التعليم العالي في هذا التخصص، إلا أن علياً وجد في هذه الأزمةِ فرصةً عظيمةً لتمحوره حول نفسه بعمق، فدفعه التفكير التأملي لفهم طاقاته والعمل على تنميتها ثم الإبداع والابتكار في تخصصه، بمساعدة جهود كثير من أساتذته، واستطاع أن يصقل بعض مهاراته الشخصية الأخرى كالاعتماد على النفس واختبار مهاراته التحليلية، ليس في حل المسائل الهندسية فقط بل في توجيه طاقاته للتكيف مع الأزمة بكفاءة.
واتفقت "مريم" على أن في أزمةِ كورونا فرصاً كبيرةً للنجاح، ولكنها تختلف عن تلك الفرص التي رآها علي. هي السنوات الأولى لمريم في التخصص عندما بدأت الجائحة، فلم تدرك حقيقة هذا التخصص عن قرب، وكانت تجهل مدى ملاءمة التخصص لها، إلا أنها كانت تتصيد الفرص للنجاح. كان شغلها الشاغل التحصيل "الرقمي" لا "المعرفي" في الأداء. وجدت من الأزمة والتعلم عن بعد تحديداً فرصةً للاعتماد، بل الاتكال على من حولها. ربما اختباؤُها خلف قدرات أقرانها من الزملاء والزميلات و/أو انتشار ظاهرة "استئجار" من يقوم بمهامها التعليمية خلف ستار التعلم عن بعد كانا وسيلةً ذهبيةً لتحصيلها درجات لا تستحقها على الأغلب. وإن لم نكن في صدد التعرض لأسباب تلك الظاهرة في هذا المقال، إلا أنها قد تكون واقعاً لمسه بعض المعلمين في مؤسسات التعليم العالي، ولا يمكن تجاهله.
أخيراً، بغض النظرعمن تكون أنت في هذه الأزمة، أحمد أم علي أم مريم، أو ربما خليط بين هذا وذاك.
سؤالي الأهم عزيزي الطالب..
ماذا بعد؟ هل أنت مستعد علمياً ومؤهل عملياً للعودة إلى مقعدك "المناسب" في صفوف الدراسة "حضورياً"؟ فإن لم يكن الأمر كذلك فكيف استعدادك له في ظل هذه الظروف؟ وكيف تمسك العصا جيداً لتجعل تعلمك عن بعد باباً لطريقٍ أوسع؟
تحياتي.
* أستاذ مساعد- قسم الهندسة الكيميائية، منسقة برنامج الدراسات العليا في تطوير الممارسات الأكاديمية (PCAP) بجامعة البحرين
"دكتورة، بدأت أخشى التخصص لأني لا أجيد التعلم أونلاين وبات أدائي سيئاً في أثناء الجائحة".
"دكتورة، تخصص الهندسة الكيميائية صعب في ظل الظروف العادية فمال بالك ِبه "أونلاين!"
"دكتورة، دراسة هذا التخصص عن بعد لا تصلح لي!"
هذا جزء مما يتردد على مسمعي بصيغة أو بأخرى، بين الحينِ والآخر.
دفعتني تلك الهواجس لأنكفئ على ذاتي وألبس ثوب الطالب مجدداً، وإن لم أخلعه يوماً.
وجدت نفسي بين صفوف دراسة الهندسة الكيميائية عن بعد، فلم أعِ أكان التعلم أزمةً أخرى لنا في ظل أزمة كورونا؟ أم كان فرصةً للقول: "الحاجة أم الاختراع"؟ هل غرقنا بين أمواج الأزمة المتلاطمة أم رفعنا شعار التميز رغم التحديات؟ هل تركنا المياه تأخذنا أينما شاءت وكيفما بغت؟ أم أبحرنا بسلم وسلام؟ أخذتنا ظروف الجائحة إلى تغييراتٍ عدة في نمط حياتنا وطرائق تعلمنا لما حولنا، فهل كان ذلك كرهاً لنا؟
فهذا "أحمد" -أحد الشخوص المحتملة لهذا المشهد- يردد: ربما لم تكن طريقة التعلم عن بعد جلية لي في بادىء الأمر، أو ربما لم أكن أعي كيف أختار طريقي للتعلم، كان قراراً خارجاً عن إرادتي وربما بعيداً عن رغبتي أن أجلس بين أربعة جدران، وأتلقى العلوم عبر هاتفي، أو جهازي المحمول، كنت أشعر مراراً أنني لست أنا، فلم أعهد أن أستمع إلى أستاذي من خلف ستار، ولم أعتد أن أتحسس الكلمات والمشاعر عبر سطور، ولم أعِ أن صِيَغ التعبير قد تكون وقد لا تكون واضحة ومفهومة للآخرين بهذا القدر، وإن بدأنا نتوق لتقريب المسافات شيئاً فشيئاً بيننا كمتعلمين، باختلاف طرائق تعلمنا وشخصياتنا وبين من حولنا من معلمين، باختلاف طرائق تفكيرهم وطرائق تدريسهم. نعم، لم يكن الأمر سهلاً. بدأت أشعر أن الكونَ قد تغير، وأن ساعات الإجبار على التغير قد بدأت. ربما كنت سبباً في أن أقع في أزمة جهلي بما حولي. كيف لي أن أواكب التغيير؟ لم يكن في الحسبان أن منا من يمقت التقنيات الحديثة، وآخر لا يجد لمسك الورقة والقلم بديلاً، وذاك غرق في سوء استخدام معلمه تلك الوسائل، فباتت تحدياً لقدرات الطالب لا أداةً لتقييمه. لا أبالغ أن منا من تعرض لأزمات نفسية واكتئاباتٍ متتالية، موجٌ متلاطمٌ بين مدٍ وجزر. أخذ يجول بنا هنا وهناك. ضحيتها إما علمٌ لم تكتمل عناصره، أو درجاتٌ فقدتها بين هذا وذاك، أو الاثنان معاً. تبعهم الشعور بأن "العوض على الله".
وهذا "عليٌ" -احتمالٌ آخرٌ للحدثِ ذاته- يشاطر أحمد الحديث ويتفق أنها لم تكن تجربة اعتيادية، ولكنه وجدها مفتاحاً لأفقٍ آخر. حارب التحدي وتعلم كثيراً، ولكنه مازال ساخطاً على مجريات التغيير، ليس لعدم قدرته على التغيير، بل -على الأغلب- لعدم قدرته على تغيير ما حوله، ارتأى أن يصنع ما بوسعه فحسب. ربما كسر حواجز وتخطى عقباتٍ، ولكنه مازال يجول حول نفسه، قد دفعته تلك التجربة لاكتشاف نفسه من الداخل، وتطوير قدراته ومهاراته في التخصص، فأدرك أن خلفيته العلمية في الرياضيات والعلوم ليست كافية لهذا التخصص، فإن لم تدفعه سنته الأولى في التخصص لتطوير مهاراته العملية في الكمبيوتر وعلوم التكنولوجيا شاءت كورونا أن ترغمه أن يكون على مقربةٍ منها. فحتماً كان لكورونا فضل في تطوير مهاراته في إدارة الوقت والتعلم الذاتي، وإن كانت بطريقة مختلفة عما كانت عليه قبل الجائحة، ولكنه رأى أنّ العمل الجماعي وفريق العمل الواحد أحد المهارات التي أخذت نصيباً متواضعاً في مساره في أثناء الجائحة؛ إذ لم يكن عليه يسيراً تنميتها، بل ربما أخذ مفهوم فريق العمل الواحد انحرافاً إلى غير محله لدى بعض أقرانه في التخصص، كحل أسئلة الامتحانات الفردية معاً في ظل ضعف بعض أساليب التقييم ومراقبتها، وخاصة مع بدء الجائحة. أضف إلى ذلك ما التمسه من محدودية الأنشطة المتعلقة بتمنية المهارات العملية في المختبرات التي كانت ومازالت هاجساً لمدرسي التعليم العالي في هذا التخصص، إلا أن علياً وجد في هذه الأزمةِ فرصةً عظيمةً لتمحوره حول نفسه بعمق، فدفعه التفكير التأملي لفهم طاقاته والعمل على تنميتها ثم الإبداع والابتكار في تخصصه، بمساعدة جهود كثير من أساتذته، واستطاع أن يصقل بعض مهاراته الشخصية الأخرى كالاعتماد على النفس واختبار مهاراته التحليلية، ليس في حل المسائل الهندسية فقط بل في توجيه طاقاته للتكيف مع الأزمة بكفاءة.
واتفقت "مريم" على أن في أزمةِ كورونا فرصاً كبيرةً للنجاح، ولكنها تختلف عن تلك الفرص التي رآها علي. هي السنوات الأولى لمريم في التخصص عندما بدأت الجائحة، فلم تدرك حقيقة هذا التخصص عن قرب، وكانت تجهل مدى ملاءمة التخصص لها، إلا أنها كانت تتصيد الفرص للنجاح. كان شغلها الشاغل التحصيل "الرقمي" لا "المعرفي" في الأداء. وجدت من الأزمة والتعلم عن بعد تحديداً فرصةً للاعتماد، بل الاتكال على من حولها. ربما اختباؤُها خلف قدرات أقرانها من الزملاء والزميلات و/أو انتشار ظاهرة "استئجار" من يقوم بمهامها التعليمية خلف ستار التعلم عن بعد كانا وسيلةً ذهبيةً لتحصيلها درجات لا تستحقها على الأغلب. وإن لم نكن في صدد التعرض لأسباب تلك الظاهرة في هذا المقال، إلا أنها قد تكون واقعاً لمسه بعض المعلمين في مؤسسات التعليم العالي، ولا يمكن تجاهله.
أخيراً، بغض النظرعمن تكون أنت في هذه الأزمة، أحمد أم علي أم مريم، أو ربما خليط بين هذا وذاك.
سؤالي الأهم عزيزي الطالب..
ماذا بعد؟ هل أنت مستعد علمياً ومؤهل عملياً للعودة إلى مقعدك "المناسب" في صفوف الدراسة "حضورياً"؟ فإن لم يكن الأمر كذلك فكيف استعدادك له في ظل هذه الظروف؟ وكيف تمسك العصا جيداً لتجعل تعلمك عن بعد باباً لطريقٍ أوسع؟
تحياتي.
* أستاذ مساعد- قسم الهندسة الكيميائية، منسقة برنامج الدراسات العليا في تطوير الممارسات الأكاديمية (PCAP) بجامعة البحرين