على وقع ترجيح البنك الدولي استمرار تداعيات السقوط اللبناني في دوّامة الانهيار على امتداد «عقديْن من الزمن»، لا يزال البلد يواصل «هبوطه الحرّ» إلى قعر الانهيار، ولا يزال أبناؤه «يتطايرون» في موجة هجرة جماعيّة، هي الثالثة في تاريخه، كما أورد تقرير مرصد الأزمة في الجامعة الأمريكيّة في بيروت. أمّا في المقلب الآخر من الصورة، فلا يزال أهل السلطة يواصلون سياسة اللّعب على حافّة الهاوية، طمعاً بـ«قضْم» حصّة بالزائد من صحن التركيبة الوزاريّة.
وهكذا، يمضي أسبوع جديد من الانتظار في بلد يواصل الانهيار، وكأنّ كلّ شيء معلّق على الوقت. فالأيام تعيد نفسها، وكذلك الأحداث: الطوابير أمام محطات الوقود، الإشكالات التي لا يختلف سوى مكانها الجغرافي والجهات المستثمرة فيها.. أمّا أطول طوابير الانتظار، والمساهِمة بكلّ الطوابير المفتعَلة، فهو طابور الحكومة المصابة بانسداد شرايينها السياسيّة إلى الآن، ولا من يجري «قسْطرة» عسى أنّ يتمّ إنقاذها.
وهكذا أيضاً، وحده البازار مفتوح، أمّا سائر الملفّات فمقفلة حتى إشعار آخر، وكلّ ما يُطرح من معالجات ليس أكثر من مهدّئات: البلاد تغلي على نيران احتكاك طائفي، قرى يصادم بعضها بعضاً، مواطنون باتوا على شرارة تشتعل لأيّ سبب، وغالباً البنزين أوّلها وآخرها، «أمراء السوق السوداء» حوّلوا البلد كلّه إلى سوق سوداء: للدولار، للذلّ، للمحروقات، للتخزين، للسلع المدعومة، للدواء، للطحين، للغذاء، للتهريب، للّصوصيّة، للاحتكار، للغلاء والتحكّم بالأسعار. ولن يطول الأمر والحالة هذه، حتى يأتي دور المياه والهواء. وفي حصيلة المشهد، يوميّات أصبحت متشابهة وتزداد تأزّماً.
وفيما يمضي العدّاد مسرعاً، «يأكل» الأيام تلو الأيام من عمر تكليف الرئيس نجيب ميقاتي (26 يوليو الماضي)، لا تزال الحكومة العتيدة عالقة في مغارة المعايير والشّروط ذاتها الآسرة لملفّ التّأليف منذ ما يزيد على العام. وعليه، فإنّ المستويات السياسيّة، على اختلافها، باتت مسلّمة بدنوّ تكليف نجيب ميقاتي من لحظة الاصطدام النهائي بجدار التعطيل، وهي بالتالي تحضّر نفسها للحظة الاصطدام الوشيك، الذي سيُفتح بدوره على مرحلة إضافيّة وطويلة من الفراغ الحكومي، مع ما قد يرافق ذلك من توتّرات. وفي حصيلة هذا المشهد، خلاصة «يتيمة»: إمّا الذهاب باتّجاه حكومة تستردّ الثقة، وإمّا الذهاب باتّجاه الانتحار، ولكنْ هذه المرة عن سابق تصوّر وتصميم.
وفي الانتظار، فإنّ لا كلمة تعلو على كلمة «أمراء» تحميهم مافيات أقوى من الدولة، وليس من يردعهم، تشاركهم فئات من اللبنانيّين تحوّلت إلى «تجّار سوق سوداء» في كلّ مقوّمات حياة الناس وأساسياتها. وكلّ ذلك، وفق الإجماع الداخلي، متفرّع عن أركان سلطة جعلوا من الحكومة «سوقاً سوداء»، يتلاعبون بتأليفها صعوداً وهبوطاً، بين خطوة إيجابيّة إلى الأمام وخطوات سلبيّة إلى الوراء، إلى حدّ صار هذا التأليف بـ«اليوميّة»: كلّ يوم يُقفل على سعر صرف حكومي جديد.
ووسط الأزمات المستمرّة، المتنقّلة والمفتوحة في آن، والتوقّعات بأن تصبح «طوابير الذلّ» متحوّرة ومتمدّدة، لا تقتصر لعنة انهيار الدولة في لبنان على التسبّب بأسوأ كارثة يتعرّض لها في تاريخه، بل يكاد لا يمرّ يوم إلا وتحصل مصيبة جديدة، أو تتناسل مشكلات في كلّ أنحائه. فمن أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، فإنّ لا صوت يعلو على صوت الفتنة المتنقلّة، والتي كان آخرها في فنيدق وعكار العتيقة شمالاً وفي بلدة مغدوشة جنوباً، فيما الصورة الأمنيّة باتت مشوّشة بالكامل. ومن هنا، ارتفع منسوب المخاوف من الفوضى التامّة الشاملة، مع ما تعنيه من العودة إلى زمن الأمن الذاتي و«شريعة الغاب»، بحيث تحمي كلّ مجموعة قريتها أو بلدتها، وكلّ جماعة حيّها أو شارعها، وكلّ طائفة منطقتها ومركز نفوذها.