هزّ وباء كورونا قطاع صناعة الأدوية في العالم، فسمح ببروز شركات ناشئة، بينما فشلت أخرى في المنافسة. ففي أقل من عام أصبح مختبرا موديرنا وبايونتك من عمالقة قطاع الصيدلة. وفيما لم تتوقف كل من فايزر وجونسون أند جونسون واسترازينيكا عن النمو، تستعد سانوفي لإطلاق لقاحها المضاد لكورونا في محاولة للاستحواذ على حصة في السوق الجديد.

لفت تقرير نشرته صحيفة لوفيغارو الفرنسية إلى أن الأزمة الصحية دفعت الصناعة الصيدلانية إلى تغيير اهتمامها، إذ تمكنت كل من فايزر وبايونتك وموديرنا واسترازينيكا وجونسون آند جونسون في أقل من عام، من طرح لقاحاتها في السوق، بينما يتطلب الأمر نحو عشرة أعوام في الظروف العادية.

ولم يسبق أبدا على مرّ التاريخ أن تعرّض هذا القطاع لتدقيق الرأي العام الدولي، لأن جزءا من مسؤولية حل هذه المشكلة الصحية يقع على عاتق هذه المختبرات.

ففي نهاية أغسطس 2021، كان 622 علاجا ولقاحا تخضع للتجربة الإكلينيكية وفق موقع البيانات ستاتيستا، لكن تم الترخيص حتى الآن باستخدام 12 منها.

ويبدو أن سوق اللقاحات انقلب رأسا على عقب بسبب كورونا، إذ لم يكن يمثل في الظروف الطبيعية سوى 5 في المئة من الصناعة الصيدلانية العالمية أي نحو 46 مليار دولار من إجمالي حجم القطاع الذي بلغ 1.1 تريليون دولار في 2019 وفق IQVIA.

وقد شاهدنا عملاق قطاع الصيدلة أسترازينيكا يتحالف مع مختبر أوكسفورد الجامعي، والرائد العالمي فايزر يتفق مع المختبر الألماني بايونتك، فيما وحدت شركة GSK البريطانية جهودها مع شركة سانوفي الفرنسية التي خسرت سباق السرعة لإنتاج لقاح، بينما عانت شركة MSD الأميركية من السخرية، بعد أن تخلت عن مشروعين لصناعة لقاحين مضادين لكوفيد 19. وأخيرا فرضت شركة موديرنا الناشئة نفسها كعملاق جديد في السوق، رغم أنها لم يسبق أن سوّقت أي علاج.

تحدي النظام القائم

تقول الشريكة في مكتب الاستشارات BCG، ماري هامبلو فيريرو إن بعض المختبرات الكبرى عززت موقعها فيما سمح وباء كورونا ببروز شركات أخرى. وبفضل سرعتها وقدرتها على الابتكار، تمكنت العديد من الشركات التكنولوجية الناشئة من تحدي النظام القائم، فشركة بايونتك التي شجعتها حكومة ميركل وبلغت قيمتها السوقية 81 مليار دولار والشركة الأميركية موديرنا التي تأسست قبل عشرة أعوام من قبل الفرنسي ستيفان بانسيل حصدا ثمار تكنولوجيتهما الواعدة، والقائمة على الحمض النووي الريبي المرسال.

وعلى مستوى أقل يمكن أن تخرج شركات أخرى منتصرة من هذه الأزمة الصحية مثل الشركة الأميركية نوفافاكس والفرنسية النمساوية فالنيفا، بعد نجاح التجارب الإكلينيكية للقاحاتهما التي توجد في المرحلة النهائية.

لكن من دون شك تبرز موديرنا كأكبر رابح من الوباء، إذ تتجاوز اليوم بفضل قيمتها السوقية التي بلغت 168 مليار دولار منافستها BMS (146 مليار دولار) والبريطانية GSK (103 مليار دولار). لكن «موديرنا» لا تزال بعيدة عن «فايزر» التي ارتفعت قيمتها السوقية في ظرف 18 لتصل إلى 262 مليار دولار.

مختبر كامل

وتوضح ماري هامبلو فيريرو أن «موديرنا» أصبحت مختبرا كاملا، وبينما غالبية المختبرات كانت تستحوذ عليها شركات كبرى، تمت دعوتها إلى طاولة اجتماع كبريات شركات صناعة اللقاحات وهي GSK وسانوفي وMSD، إذ استثمرت كل قدراتها في البحث العلمي لتطوير لقاحها، خاصة بعد أن تبين أن كوفيدـــ19 يمكن أن يتحول إلى فيروس موسمي.

ويتعلق الأمر بسوق بحجم يصل إلى عشرات المليارات من الدولارات وفق فيريرو مع إمكانية تقديم جرعات تعزيزية مرات عدة في السنة، وهذا ما تعول عليه «موديرنا».

وإن استطاعت هذه المختبرات الحيوية بفرض نفسها في ساحة الكبار، فإن كوفيدـــ19 سلط الضوء على القوة المالية لعمالقة القطاع، الذين كانوا قادرين وحدهم على المخاطرة، إذ بدأوا بإنتاج كميات كبيرة من اللقاحات حتى قبل صدور النتائج النهائية للتجارب الإكلينيكية من أجل ربح الوقت.

وتتميز هذه الشركات أيضا بقوة إنتاج كبيرة وفريدة من نوعها فمنصع «بورز» في بلجيكا التابع لـ«فايزر» الذي يغطي السوق الأوروبي، ينتج أكثر من 100 مليون جرعة شهرياً وبفضل التطوير المستمر، تمكنت الشركة من تخفيض فترات التصنيع إلى النصف من 110 أيام إلى 60 يوماً.

تسارع البحث العلمي

ترغب كل المختبرات اليوم في استخلاص الدروس من أساليب العمل الجديدة وأفضل الممارسات التي يفرضها الوضع الصحي، إذ أسس كوفيدـــ19 معياراً جديداً للأبحاث العلمية.

وترى ماري هامبلو فيريرو أن هناك رغبة اليوم في الإسراع في إجراء تجارب إكلينيكية مع بروتوكولات على المقاس متوائمة مع الوضعيات الاستثنائية، وتضيف: «يمكن أن نتصور لاحقا دراسات صغيرة عند الانطلاق مع متابعة في الواقع للبيانات الصحية مثلما قامت به فايزر».

وعلاوة على إيقاع البحث العلمي، غيّر وباء كورونا قواعد دخول السوق والإجراءات التنظيمية للوكالات الصحية مثل الوكالة الأوروبية للأدوية وإدارة الغذاء والأدوية الأميركية التي تسارعت بشكل كبير، وأخيرا فإن التوترات بشأن المواد الفعّالة التي تدخل في صناعة اللقاحات والتي شهدها العالم في بداية الوباء، أكدت أهمية تبني مقاربة جهوية أكثر في سلاسل التوريد.

شبكة من مقاولي الباطن

حتى تتمكن من إنتاج 5 مليارات جرعة من اللقاحات، قامت أكبر خمس شركات ببناء شبكة من مقاولي الباطن، تم تكليفهم بالتغليف والتوزيع في جميع أنحاء العالم، ومؤخرا أبرمت «فايزر ــــ بيونتك» اتفاقاً مع شركة بيوفاك الجنوب أفريقية من أجل إنتاج وتوزيع لقاحها في كل القارة الأفريقية.

وخلال هذه الفترة أصبحت أوروبا بفضل مصانعها الـ58، أول منطقة لتصنيع اللقاحات المضادة لـ«كورونا» في العالم، وعلاوة على الإنتاج، تسعى القارة العجوز إلى إنشاء وكالة أبحاث على غرار الوكالة الأميركية BARDA لتعزيز سيادتها الصحية. ويقول الرئيس المدير العام لشركة ibionext، برنار جيلي: «إن هذا أحد مكتسبات الوباء، لقد وعى الجمهور بأن الصناعة الصيدلانية لا تنتج فقط عقار دوليبران وإنما لها أهمية جيوسياسية».