الحرة

للوهلة الأولى يبدو مدخل بيت فادية بخاري، في حيّ فقير بمنطقة أرض جلول على الطريق الجديدة ببيروت كأنه بيت مهجور تماماً، تركه أصحابه وغادروه منذ زمن.

هناك روايات كثيرة عن أناس دمرتهم الأزمة الاقتصادية تماماً، فادية يبدو التعب عليها قبل أن تتكلم وحتى من دون أن تنزع عن وجهها الكمامة لتظهر خطوط الحزن الممتدة من المنزل إلى أول الشارع حيث تفرش مع شقيقها أكياس البطاطا "التشيبس" كي تبيعها لتؤمن غذاءها.

فادية واحدة من كُثر، من غالبية، تُعاني ما تعانيه بسبب الأزمة التي يمرّ بها لبنان، والتي لا يبدو أن لها أي أفق أو ضوء يطل من نفق يزداد ظلمة كُل يوم.. قصص كثيرة وويلات تكبر يوماً بعد يوم. أناس كانوا بالأمس يعيشون حياة مقبولة نسبياً صاروا اليوم يبحثون عن الفتات.

الجولة في المنطقة وحدها تكفي لكشف كمّ تعاني. الفقر في كُل مكان. أحياء تكدست فيها الناس كما كدسوا الخضار على البسطات المبعثرة في شوارع اختفى فيها الإسفلت تحت الغبار وأكوام القمامة الموزعة على جوانب الطرقات، وفي محيط حاويات صارت مكبات.

تخرج فادية من طريق ضيق لتدل إلى منزلها، الذي لا يدخله النور، وغادرته الكهرباء منذ زمن. تعيش مع ابنها محمد (23 عاماً) في ظروف تصفها بالصعبة، ولكنها أكثر من ذلك بكثير.

الظروف الصعبة هذه، تنذر بالأرقام مما يتجه إليه اللبنانيون، إذ يتوقع البنك الدولي أن يرتفع معدّل الفقر في لبنان ليطال أكثر من نصف السكّان خلال عام 2021، وهو ما يتوافق مع توقّعات منظمة الإسكوا التي أشارت إلى ارتفاع معدّل الفقر من 28% إلى 55% بين العامين 2019 و2020، وبلوغ العدد الإجمالي للفقراء بحسب خطّ الفقر الأعلى نحو 2.7 مليون نسمة، أرقام قد لا تعني فادية لأنها مثال حي عما تُحذر منه المنظمات الدولية والإغاثية.

قبل شهرين، دفنت فادية، 50 عاماً، زوجها مصطفى البنا.. مشت مع نعشه من المنزل إلى مدافن الخاشقجي، رمت عليه السلام الأخير وعادت لتواجه المستحيل كأن تدفع بالتقسيط، حتى اليوم، إيجار فتح المدافن.

قبل موته، عانى "الحج مصطفى" من تعب كليتيه وكان يغسلهما أسبوعيا، على مدى 15 عاماً وهو يفعل ذلك وهي تراه أمامها يذبل شيئاً فشيئاً إلى أن تعطل كبده وفارق الحياة عن عمر 55 عاما.

وضعت له صورة صغيرة على رف تضع عليه بعض الأكواب، واحتفظت بصوره الكثيرة في مراحل حياته على هاتفها، تُقلبهم، تتذكره حين كان عريساً وحين كان يمتلك محل سمانة يعيشون منه جميعاً، دون أن يكونوا بحاجة لعناية أحد.

15 سنة تعتني بزوجها، إلى أن غادرها.. خلال السنتين الأخيرتين، وبعدما تدهورت صحته، اضطرت أن تلازمه في المستشفى، فتراجع العمل في المحل حتى أقفلوه، ليفتحوا بابهم لأيام سوداء، كسواد البيت، أو الغرفة التي تقطن فيها اليوم مع ابنها.. غرفة لا تتعدى 5 أمتار، وضعت مع ابنها حاجياتهما خلف ستار كبير، القليل من الأحذية والملابس، براد صغير تضع الخبز وقناني المشروبات الغازية التي تبيعها مع أخيها، وعلبة صغيرة فيها القليل من اللبن، كانت قد اشترتها ليأكلاها على العشاء مع رغيفي خبز تركهما لهما شقيقها بعد أن أنهى غداءه من الفول. والفول وجبة تبقيه يوماً كاملاً من دون الحاجة للأكل مرة أخرى.

الغرفة التي لا تصلح للحياة، ينامان فيها كُل على أريكة مهترئة. يصحوان على وجع الظهر بعد أن يغفيا من شدة التعب. إلى جانب باب الغرفة من الداخل وضعت كومة من الكراسي، تسند بها الباب ليلاً لأنها لا تستطيع إصلاح القفل. أما الحمام فهو مفتوح على مطبخ لا يتجاوز المتر والنصف، تطبخ فيه الأرز والعدس وتسلق البطاطا. هذا كُل ما يُمكنها أكله مع ابنها في هذه الأيام.

على الغاز الذي لا يعمل منه سوى عين واحدة، وضعت طنجرة "مقلوبة"، وهي أكلة فيها الأرز والباذنجان واللحم، جلبتها لها جارتها أم علي التي تتذكرها أسبوعياً بـ"طبخة كبيرة" تكفيهما ليومين أو ثلاثة.

حين وصلت "المقلوبة" أرسلت ابنها محمد مع كوب كبير إلى الدكان ليملأه لبناً بقيمة 5 آلاف ليرة، لأن العلبة الكبيرة يبلغ ثمنها 25 ألفا، وهي طبعاً لا تملك هذا الترف.

جلبت قبل يومين الخبز الإفرنجي لتتناوله على الغداء مغمساً بما تبقى لديها من زيت الزيتون والملح. وهي تروي مأساتها لا تتوقف عن شكر الله، تقول إنه لن يتركها، إيمانها به يُبقيها صامدة وسط كُل هذا البؤس، واثقة هي رغم أن كُل ما حولها وكُل ما تعيشه لا يُشجع على بناء أي ما له علاقة الثقة.

تنتظر فادية، مثلها مثل غالبية اللبنانيين، البطاقة التمويلية، التي أقرت اليوم الخميس بعد طول انتظار. بطاقة تؤمن للفرد 25 دولاراً أميركياً شهرياً لمدة سنة، مع الغلاء الحاصل يُرجح ألا تُحدث الفارق الكبير الذي تحدث عنه المشرفون عليها. فادية وابنها سيحصلان على 50 دولاراً، أي نحو 900 ألف ليرة بحسب سعر السوق السوداء اليوم، فادية تدفع إيجار منزلها/غرفتها فقط 500 ألف ليرة.

تنتظر أن تأتي الكهرباء ساعة كُل 24 ساعة كي تستطيع شحن هاتفها وتُنظيف الغرفة والاستحمام بصابون بلدي تقتصد باستعماله لأنها لا تستطيع شراء الشامبو. كذلك يفعل ابنها محمد الذي لا يتكلم كثيراً، وإذا فعل يظهر وكأنه يكاد ينفجر بكاء.

تُخزن المياه في غالونات صغيرة تحسباً لانقطاع المياه، فهي لم تدفع للدولة منذ زمن، وتعيش يومياتها في انتظار أن يقطعوا عنها الإمداد. إلى الآن لم يفعلوا، لكنها تنتظر الأسوأ دائماً، من دون أن تكون حاقدة على أحد، ببساطة لا وقت لديها للحقد ولا للوم حتى. همّها أن تؤمّن إيجار المنزل، الغرفة. "لا أحد يموت من الجوع، ولكنني لا أريد أن يرمونني خارج هذه الجدران على رداءتها. مجرد التفكير في هذا الأمر يجعلني ارتعد خوفاً"، تقول.

نواب المنطقة لم يردوا عليها، الوزراء أيضاً، تقول: "يأتون إلينا وقت الانتخابات ثم يختفون. نموت جوعاً ولا يكترثون. لا أنتظر منهم الآن أن يصحو ضميرهم".

حين تدهورت أحوالها وساء وضع زوجها، تناوبت بعض الجمعيات على التكفل بتغطية المبلغ الذي يتوجب عليها دفعه كفارق تغطية وزارة الصحة. هذا كُل ما حصلت عليه. قدمت طلب إعالة في صندوق الزكاة عقب وفاته، لكن لا أحد اتصل بها إلى اليوم، ولو أرادوا المساعدة لفعلوا.. ببراءة تقول: "الأرجح أنهم منهمكون لأن الأزمة زادت العبء عليهم".

ماذا تريد فادية؟ تُجيب: "خذوني من هذه البلاد. لا شيء آخر. تعبت ولم تعد لدي طاقة على الصمود.. عشت عمري أحارب كي أحيا. استُنزفت كُلياً ولم أحيا، هذه ليست حياة. الجحيم أرحم".

تشير بيدها إلى الطريق، هي تنتظر الشتاء الذي معه "يطوف المنزل" بسبب الأمطار، وضعت عتبة عالية على مدخل الغرفة كي تمنع دخول المياه، أو بالأحرى كي تبقيها في المطبخ والحمام، لكن خطتها لا تنجح دائماً، حين تشتد الأمطار، تكون فادية مع محمد في العراء.

على مدخل الحي المهمّش، يجلس شقيقها التوأم فادي إلى جانب أكياس البطاطا وعلبة يتيمة من الكعك المحشو بالتمر. يجلس بصمت وتعب. يتقاسم وشقيقته الهمّ والأسى، قبل أن يعود إلى منزله بربطة خبز وعلبة جبن، وتعود هي إلى غرفتها.. الشاهدة على الذل.