الحرة

أوصد المزارع خميس عباس أبواب داره، وترك أرضه في نينوى شمال العراق إلى مدينة الموصل حيث يقاسي البطالة، لأن أمطار هذا العام الشحيحة لم تنبت بذور الحنطة في حقله، حاله حال العديد من فلاحي تلك الأرض الخصبة تاريخيا، الذين يعانون جراء الجفاف الناجم عن التغير المناخي.

وانتقل خميس البالغ من العمر 42 عاما من قرية واقعة غرب الموصل، ليقطن مع أهله في حي شعبي في مدينة الموصل.

ويروي لفرانس برس من أحد مقاهي المدينة، مرتديا الزي العربي التقليدي أن "زراعة القمح والشعير باتت الآن أشبه بلعبة اليانصيب"، إذ أنها "تعتمد على الأمطار التي إذا توفرت سنجني ثمار الأرض".

وكان الجفاف هذه السنة قاسيا وشديدا إلى حد غير مسبوق على مزارعي نينوى، التي تعد سلة خبز العراق، كونها تضم مساحات زراعية شاسعة تصل إلى ستة ملايين دونم، وتعتمد الزراعة فيها على مياه الأمطار.

وإن كانت الأزمة تطال العراق كاملا، فإن هذه المحافظة المشهورة بزراعة الحنطة كانت "الأكثر تضررا"، وفق المتحدث باسم وزارة الزراعة حميد النايف.

وفي العام 2020، أنتجت المحافظة "927 ألف طن من الحنطة، محققة الاكتفاء الذاتي"، بحسب ما قال مدير الشركة العامة للحبوب في نينوى، عبد الوهاب الجرجري، لوكالة فرانس برس، لكن "في عام 2021، انخفضت الكمية إلى 89 ألف طن بسبب الجفاف وقلة سقوط الأمطار".

وأضاف المتحدث باسم وزارة الزراعة أن العراق يحتاج "إلى 4,5 مليون طن" من الحنطة، "لكننا أنتجنا مليونين فقط".

وتشرح سماح حديد من منظمة المجلس النروجي للاجئين غير الحكومية، أنه مع "الانخفاض القياسي بمنسوب الأمطار، وتراجع تدفق المياه" من نهريه التاريخيين دجلة والفرات، إثر بناء إيران وتركيا المجاورتين سدودا، بات العراق "بمواجهة أسوأ أزمة جفاف في عصره الحديث".



"لم نحصد شيئا"

على غرار خميس، دفع الجفاف 447 عائلة من النازحين العائدين بعدما هجرهم تنظيم داعش قبل سنوات، إلى المغادرة مرة أخرى بين شهري يونيو ويوليو 2021، في ظل درجات حرارة تجاوزت الخمسين. وبلغ هذا العدد 2982 عائلة في مناطق الجنوب والوسط حيث وقع الصيف أقسى، وفق المنظمة الدولية للهجرة.

وعام بعد عام، تزداد أزمة المياه سوءا في العراق مع تراجع معدلات هطول الأمطار وتمدد الجفاف، إلى أن بات العراق البلد "الخامس في العالم" الأكثر تأثرا بالتغير المناخي بحسب الأمم المتحدة.

على المستوى العالمي، يتسبب التغير المناخي بموجات جفاف أقوى وأكثر كثافة، ما يهدد بالدرجة الأولى الأمن الغذائي للسكان حول العالم. وثمة خطر حقيقي في أن تتزايد موجات الجفاف حتى ولو تمكن العالم من حصر الاحترار بـ1,5 درجة مئوية بالمقارنة مع حقبة ما قبل الصناعة.

وانعكس ذلك مباشرة على حياة الفلاح عدنان خليل أحمد. متحسرا على وفرة إنتاج العام 2020، يروي الرجل البالغ من العمر 63 عاما من حقله الواقع على طرف طريق يربط بين الموصل وتلكيف "لا أمطار في موسم العام 2021، ولا موسم زراعي، لم نحصد شيئا".

ويضيف الرجل الذي ورث مهنة الزراعة عن أبيه في حقل حنطة تبلغ مساحته 3500 دونم "نصرف مبالغ إضافية كبيرة على الزراعة والتسويق، ما يرغم العديد من المزارعين على الاقتراض".



"عدم الاستقرار"

تراود فكرة التخلي عن مهنة الزراعة أيضا أكرم ياسين، الذي باع قسما من مواشيه الـ500 "حتى أعيش"، كما قال.

من حقله في قرية القائم في قضاء تلكيف في المحافظة التي شهدت على فظاعات تنظيم داعش، يروي الشاب البالغ من العمر 28 عاما "ربما أغير مهنتي، إنني أخسر أكثر مما أربح، بعت قسما من الأراضي وبثمنها زرعت القسم الآخر".

وأضاف الشاب الذي يزاول الزراعة منذ 15 عاما "اضطررت أيضا للاستدانة لتغطية مصاريف الزراعة".

إلى الشمال في دهوك في إقليم كردستان، تسببت قلة الأمطار بجفاف سد زاويته كاملا، ما أدى إلى تلف محاصيل التين والرمان في الحقول المجاورة، وألحق ضررا كبيرا بنحو 25 فلاحا مثل بهجت بازيد يوسف.

ويقول الرجل الذي يزاول الزراعة منذ 21 عاما إنه "بسبب جفاف السد تعرضت مزرعتنا لضرر مادي كبير، فقد تلفت غالبية أشجار التين وجفت قرابة 5 إلى 6 آلاف دالية عنب".

ويعتمد السد على مياه الثلوج والأمطار، لكن مدير الري في محافظة دهوك هيزا عبد الواحد يشرح أن "الأمطار كانت قليلة جدا في الموسم الماضي".

وتتسبب تلك الظروف بقيام مزيد من الأزمات. ويشرح روجر غيوي مدير مركز أبحاث "سوشال إنكويري" في أربيل أن "ذلك النزوح العشوائي إلى المدن، مثل الموصل وكركوك، من شأنه أن يخلق أيضا حالة من عدم الاستقرار. تلك المدن ليست معدة بشكل جيد لهذا التدفق الهائل ... هي هشة أصلا".

وحتى الصيف الماضي، بعد أربع سنوات من طرد تنظيم داعش من الموصل، أعيد إعمار نحو 80% من البنى التحتية في المدينة لا سيما الطرقات، لكن نسبة 30 إلى 40% فقط من المنشآت الصحية أعيد إصلاحها، وفق قائمقام قضاء الموصل زهير الأعرجي.

وبعدما نزح إلى الموصل، وجد خميس عباس نفسه بدون عمل. ويروي "أحيانا أعمل أعمالا صغيرة وأكسب ما يعيل عائلتي، بعدما كنت أعتاش من زراعة الحنطة وتربية المواشي في حقلي الذي أعتمد في ريه على الأمطار فقط".





تسببت قلة الأمطار بجفاف سد زاويته كاملا

وفي أكتوبر الماضي، حذر تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، من الأزمة الغذائية التي يسببها التغير المناخي على العراق، وتحويله الأراضي الزراعية الخصبة إلى أراض جرداء مهجورة.

ويشير التقرير إلى وجود شعور باليأس لدى السكان في جنوب العراق جراء الجفاف وارتفاع درجات الحرارة لمستويات قياسية، وهو الأمر الذي أدى لتلف الأراضي الزراعية وهجرة السكان من منطقة كانت يوما مهدا لواحدة من أوائل الحضارات الإنسانية.

وقدرت الأمم المتحدة مؤخرا أن أكثر من 160 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية في العراق تحولت إلى صحاري جرداء.

في المقابل، أدى نقص الأمطار خلال السنوات الماضية إلى اعتماد المزارعين على مياه نهري دجلة والفرات، التي شهدت هي الأخرى نقصا نتيجة السدود في تركيا وإيران.

وأدى ذلك، وفقا للتقرير، إلى صعود المد الملحي من مياه الخليج جنوبي العراق باتجاه شط العرب، وصولا إلى نهري دجلة والفرات وبمسافة تقدر بـ100 كيلومتر في عمق مدينة البصرة.

ويلتقي نهرا دجلة والفرات في منطقة كرمة علي شمالي البصرة، ليشكلا شط العرب الذي يصب بدوره في مياه الخليج.

في منطقة الأهوار، المشهورة تاريخيا بمسطحاتها المائية منذ أيام السومريين، بدأت معاناة السكان المحليين بالازدياد حيث تموت الجواميس وتهاجر العائلات إلى المدن لعدم قدرتهم على تحمل ارتفاع درجات الحرارة.

ووفقا للتقرير، ما يحدث في العراق من ارتفاع لدرجات الحرارة يعد مؤشرا على ما سيشهده العالم في المستقبل.

فقد تجاوزت درجات الحرارة في العراق هذا الصيف 51 درجة مئوية، بالتالي بات البلد الأسرع الذي ترتفع فيه درجات الحرارة مقارنة بباقي دول العالم.

وتعد ملوحة المياه، مرفقة بالارتفاع الشديد في درجات الحرارة، ضربة قاضية للقطاع الزراعي العراقي الذي يشكل نسبة 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي ويوظف 20 في المئة من إجمالي اليد العاملة في البلاد.

وفي الإجمال، تضرر "سبعة ملايين عراقي" من أصل 40 مليونا، من "الجفاف والنزوح الاضطراري"، وفق ما ذكر الرئيس العراقي برهم صالح في تقرير أصدره عن التغير المناخي الصيف الماضي.

وليست هذه سوى البداية. ففي السنوات القادمة، سوف تزداد تداعيات التغير المناخي حدة، كما كتب الرئيس العراقي: "مع وجود أعلى معدلات التزايد السكاني في العراق، تفيد البيانات بأن عدد سكان البلد سيتضاعف من 38 مليونا اليوم إلى 80 مليونا بحلول عام 2050، وهذا يضاعف المخاطر الاقتصادية والاجتماعية لتغير المناخ إذا تركت من دون معالجة".

وحذر برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2019 من أن "التغير المناخي من المتوقع أن يقلل هطول الأمطار السنوي في العراق، مما سيؤدي إلى زيادة العواصف الترابية وانخفاض الإنتاجية الزراعية وزيادة ندرة المياه".

ويقول برنامج الأمم المتحدة للبيئة إنه في عام 2015، كان لدى كل عراقي 2100 متر مكعب من المياه المتاحة سنويا، مضيفا أنه بحلول عام 2025، ستنخفض تلك الكمية إلى 1750 مترا مكعبا، مما يهدد استقرار الزراعة والصناعة في البلاد على المدى البعيد، فضلا عن تهديد صحة السكان.