^   في جلسة حميمية ضمت مجموعة من الأصدقاء ممن دأبوا على التداول في الشأن العربي العام فيما بينهم، ولا يكفون عن متابعة الأوضاع العربية من اليمن جنوباً حتى المغرب في أقصى الشمال، توقف الجميع عند الزيارة التي يقوم بها مجموعة من رجال الأعمال البحرينيين إلى كوريا الجنوبية، وراح الكل يتحدث بإعجاب عن التجربة الكورية على الصعد كافة؛ التنمية، الصناعة، التحولات الاجتماعية.. إلخ وكالعادة انتقل النقاش من الأوضاع في العاصمة الكورية سيول إلى تلك التي تسود المنطقة العربية. فجأة وبشكل عفوي ودون سابق إنذار، تحولت الحوارات من إعجاب بالحالة الكورية إلى حالة ندب كربلائية مشوبة بعبارات التأفف، التي سيطرت عليها مفردات الحسرة، وطغت على أجوائها غيوم التشاؤم. بل امتدت نقاشات المقارنة بين كوريا الجنوبية والبلدان العربية كي تشمل دولاً كبيرة مثل الصين والهند ودولاً أخرى صغيرة من حجم سنغافورة وماليزيا. بدأت تلك الحلقة النقاشية، غير المعد لها سلفاً، بالوضع السياسي؛ وتنافر الحاضرون كي يدللوا على تدهور الحالة السياسية العربية مستشهدين بما آلت إليه الأمور رغم هبوب رياح ما أصبح يعرف بـ “الربيع العربي” عليها. انبرى أحد الحاضرين كي يلقي باللوم على القوى الحاكمة، ويحملها مسؤولية ما تعاني منه المنطقة العربية من تخلف لا تبزها فيه سوى بعض دول أفريقيا الفقيرة ذات الموارد الطبيعية المحدودة، مستشهداً بأمثلة ملموسة نجح في اختيارها ببراعة. كان من الممكن القبول بمرافعة ذلك الصديق التي تدين الحكام وتبرئ المعارضة، لو أنها لم تحاول أن تقفز على حقيقيتين أساسيتين؛ الأولى وهي الأهم أن عدداً كبيراً من الدول العربية اليوم تسيطر عليها قوى كانت إلى فترة قريبة، لا يتجاوز عمرها النصف قرن، وهي مسافة زمنية قصيرة بالمعيار التاريخي لتقدم الشعوب، في خانة المعارضة وليس الحكم. بل أن واقع تلك البلدان التي استولت فيها قوى المعارضة تلك على السلطة يشكل في معظمها، إن لم يكن جميعها، حالة أسوأ من تلك البلدان التي لم تهب عليها رياح التغيير. والمخيف هنا هو أن رياح تغيير الربيع العربي لا تبشر بالخير، بل ربما تنذر بالشر. الثانية، أن العلاقات والتي يفترض فيها أن تكون راقية بين أطراف المعارضة العربية، بمن فيها تلك التي تنشط ضمن إطار سياسي عربي منفرد، لا تبعث الأمل في نفوس من يحاولون التمسك، بأوهى نفحات التفاؤل المطلوب توفرها في صدر من يطمح إلى رؤية “عرب المستقبل” يخطون أولى خطواتهم المطلوبة على طريق التقدم، دع عنك التطور. المحزن في الموضوع هو إجماع الحاضرين على قضية واحدة؛ هي أنه بينما تقدم الآخرون تخلف العرب، وشكلوا بالمعيار العالمي حالة عجز يتندر بها العنصريون ويشمت فيها بهم الأعداء. فعلى الصعيد الاقتصادي ما تزال قوانين “الاقتصاد الريعي الخارجي”، وهي الأكثر تخلفاً والأسوأ أداءً حتى من “الاقتصاد الريعي الداخلي”، المتخلف بطبيعته، هي التي تسير الاقتصادات العربية دون أي استثناء، سواء تلك التي تعتمد أساس على النفط أم على الإنتاج الزراعي. هذا النمط من الإنتاج لا يعاني من تجاوز المرحلة التي يمر بها الاقتصاد العالمي اليوم فحسب، لكنه أيضاً وبدرجة عالية يكرس ارتهان البلاد العربية بالخارج، ويجعل منها بقرة حلوب دائمة تقف على الحدود ضرعها في الخارج يحلبه غير الملاك، وفمها في الداخل تشارك أفراد القطيع في استهلاك موارد المرعى، فيستفيد من خيراتها من هم في الخارج من غير السكان الأصليين، وتنافس هي وبنهم شديد من هم الداخل من أبناء جنسها في قوتهم اليومي. أما على صعيد تنمية الموارد البشرية، فتكفينا إطلالة سريعة على أنظمة التعليم المعمول بها في الدول العربية، بما فيها تلك التي بحوزتها سيولة نقدية كافية للإنفاق على الخطط التربوية المعاصرة، كي نكتشف أننا في البلاد العربية ما زلنا نصر على أن نخضع أبناءنا لنظم التلقين البالية، ولم نلج بعد تلك المرحلة التي يتحول فيها عقل الطالب من مجرد عضلة ذهنية متلقية تخزن أكبر كمية من الحقائق التي لا تستطيع معالجتها وتحويلها إلى معلومات مفيدة، إلى خلية مبدعة قادرة على الاستقبال والمعالجة وإعادة البث، بعد أن تزود ما تلقته بالقيمة المضافة التي يحتاجها المجتمع الديناميكي المبدع الذي تسير آليات حركته أنظمة تعليمية تضع الطالب في خانة المستهلك؛ المنتج للمعلومة على حد سواء لا المستهلك لها فقط. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد انحرفت النقاشات التي تسود الشارع السياسي العربي، وجرت معها الخطط التنموية الاجتماعية من بحث عن دور منتج حقيقي للمرأة تشارك من خلاله في الحياة السياسية، وتمارس دورها المطلوب في عمليات التنمية المجتمعية، إلى مجرد سيل من المهاترات ضيقة الأفق التي تعالج ملابس المرأة وطريقة مشيتها ومدى تمسكها بتقاليد بالية لا تمت بشيء لقيم الدين الإسلامي الحنيف في مراحل ازدهاره، وبعيدة كل البعد عن أي مشروع إصلاحي تنموي اجتماعي نحن اليوم في أمس الحاجة له. يصل النقاش بعدها إلى الحالة السياسية، أو بالأحرى المشروع السياسي العربي، وفي القلب منه قضيتان أساسيتان هما؛ العلاقات العربية المشتركة، كي لا أخطى فأقول “الوحدة العربية“ وفلسطين. ودون الحاجة إلى استحضار كثير من الشواهد والحديث هنا محصور في العلاقات السياسية العربية، كي لا نشت فننحرف نحو مناقشة الاقتصاد أو المشروعات الاستراتيجية العربية التي تدلل على تراجع تلك العلاقات إن لم نقل تدهورها. مرة أخرى هنا نعود إلى البرامج التعليمية التي يفترض فيها زرع بذرة تشجيع التقارب العربي، كي نجد أنها تخضع نفسها وبقرار ذاتي لقوانين وآليات زاوية المثلث المنفرجة وليست الحادة. الحالة ذاتها تكرر نفسها عند النظر في القضية الفلسطينية، وموازين قوى الصراع القائم بين المعسكرين الإسرائيلي والفلسطيني، بل وحتى العربي إن شئنا توسيع الدائرة، لصالح الطرف الفلسطيني، فهي تسير في اتجاه مضاد للطرف الفلسطيني وفي صالح الجهة الإسرائيلية بشكل متواز، لكنه متكامل. المحزن في الموضوع أن النقاش انتهى بالخاتمة التقليدية ألا وهي أن “الحكام العرب هم وحدهم يتحملون مسؤولية تردي الأوضاع ووصولها إلى ما هي عليه الآن، وأن الشعب العربي مظلوم ومن يمثله من القوى المعارضة بريء”. ربما آن الأوان للخروج من تلك المعزوفة والنظر بموضوعية إلى حالنا، ولعل أول من تقع عليه مسؤولية مثل هذه الخطوة الشجاعة هي المعارضة ذاتها، التي يفترض فيها أن تتحلى بالجرأة المطلوبة، فتسبق الحكام كي تنتشل نفسها قبل غيرها، ومعها المواطن العربي، من حالة العجز العربي المستشري في جسد الأمة، ويكاد أن يتحول إلى ما يشبه المرض العضال المشكوك في الشفاء منه