إرم نيوز
في ركن هادئ من غرفة الجلوس داخل بيتها بإحدى مدن محافظة المنستير التونسية (وسط)، تجلس نجاة أمام لوحة الرسم، ممسكة الفرشاة بين فكيها، ثم لا تلبث أن تنحني على الألوان المعروضة أمامها وتغمس فرشاتها، ثم تبدأ في رسم إحدى اللوحات التي استوحتها من الطابع الهندسي المعماري لمدينة سيدي بوسعيد، الواقعة شمال العاصمة تونس.

تختار نجاة بامري (40 عاما) وهي فنانة تشكيلية، تحدت إعاقتها الجسدية لتبدع في رسم لوحات تشكيلية، أن تكون غرفة الجلوس الفسيحة مكانا لممارسة فنها الذي أصبح رفيق حياتها، ودافعا لتجاوز الإحساس بالإعاقة التي كانت تلازمها منذ ولادتها، إذ إنها لم تكن قادرة على تحريك ذراعيها أو ثني ركبتيها.

كبرت نجاة التي نشأت في عائلة متواضعة في محافظة المنستير الساحلية، وهي تشكو من تلك الإعاقة، ولكن مع تقدم العمر كانت عزيمتها على تحدي تلك الإعاقة تكبر، وحلمها بأن تحول ذلك الضعف إلى طاقة إبداعية ينمو شيئا فشيئا، وذلك بعد أن اكتشفت موهبة الرسم لديها، وهي لم تتجاوز العاشرة من العمر.

وتروي نجاة قصة تحدي الإعاقة والرسم بالفم لتقول: ”ولدت بإعاقة جسدية، وكنت في طفولتي أجد صعوبات وأحتاج إلى المساعدة من والدتي في قضاء شؤوني، لعبت الصدفة دورا كبيرا في أن آخذ طريقي في الفن التشكيلي باستعمال فمي عوض يدي، ففي سن الرابعة، وبينما كنت في البيت.. رأيت قلما أمامي، فمسكته بفمي، ورحت أرسم خطوطا عشوائية دون معنى، هذا ما روته لي أمي".

وقبل أن تجيد مهارة الرسم، نجحت نجاة في صقل موهبتها، حيث أصبحت تستلهم اللوحات التي ترسمها على القماش باستعمال الألوان الزيتية من المناظر الطبيعية أو من التراث الهندسي المعماري لمدن تونس العتيقة أو للمدن الساحلية، مثل سيدي بوسعيد وجربة، وغيرها.

تقول في حديثها لـ ”إرم نيوز": اكتشفت أمي تلك الخطوط، ويبدو أنها أعجبت بها قبل أن أطلق العنان لفمي وقلمي، ثم كبر ولعي بالرسم، فصرت أخصص وقتا طويلا من يومي لأمسك القلم أو الريشة وأرسم ما أريد أو ما أشاهده أمامي من صور أو من مجسمات واقعية".

وتضيف نجاة: ”أصبح الرسم بالنسبة لي حياة جديدة ساهمت في أن تنسيني إحساسي بالإعاقة وتخفف وطأتها، عثرت على أشياء كثيرة في الرسم أسعدتني، أن أمارس هوايتي وأبدع فيها هو أفضل تحد لي، لوحاتي مليئة بالألوان والحياة والحركة، حرمت من تحريك ذراعي في حياتي، فعوضني الله عن ذلك بريشة في فمي".

ترسم نجاة لوحاتها على القماش أو على الورق المقوى المخصص عادة للفن التشكيلي، أما بخصوص مضامين رسومها فكثيرا ما تستلهمها من الهندسة المعمارية لتونس، فهي ترسم قباب مدينة سيدي بوسعيد وأقفاصها الزرقاء وشبابيكها ذات المربعات الصغيرة، كما تبدع في لوحات للمدينة العتيقة بالعاصمة تونس أو المناطق الطبيعية مثل واحات النخيل في الجنوب، أو الأزياء التقليدية والمجوهرات التونسية، وتستوحي بعضا من لوحاتها من معالم تاريخية ودينية عربية، مثل المسجد الأقصى، كما ترسم الحيوانات مثل الخيول العربية أو الفراشات وغيرها.

وشاركت نجاة، وهي زوجة وأم لطفلة عمرها يفوق العشر سنوات، في عديد المعارض التشكيلية في تونس والجزائر والمغرب، كما نالت تكريما رئاسيا من الرئيس التونسي قيس سعيد في ذكرى عيد المرأة التونسية، والذي تعتبره من أفضل التكريمات التي حصلت عليها.

وترى الفنانة التشكيلية أن حصولها على الدكتوراة الفخرية في الفن التشكيلي من قبل مؤسسة المبدعين العرب عام 2018، والتي تمنح للشخصيات المهمة في العالم العربي، يعد أيضا من العلامات الفارقة في حياتها وفي علاقتها بالفن التشكيلي.

تقول نجاة عن ذلك النجاح: ”منحي شهادة الدكتوراة الفخرية في مصر كان تتويجا لرحلة التحدي والإبداع بالنسبة لي، قدمت أيضا لوحاتي في عدد من المدن الجزائرية بمناسبة تنظيم معرض تشكيلي شهد نجاحا، كما شاركت في مارس 2019 في معرض المبدعات العصاميات، وفزت بعدد من الجوائز، أملك أكثر من مائة لوحة تشكيلية مختلفة الألوان والتصورات، الرسم بالفم عوضني عن كل شيء في الحياة".

أما بخصوص حياتها الخاصة، تقول نجاة: ”منحني الله عائلة أحبتني بكل العطف، ابنتي مولعة أيضا بالرسم وكل مدرسيها في المدرسة يشيدون بما تخطه أناملها، سأشجعها على المضي في طريق الفن التشكيلي إذا ما أرادت ذلك".

وعرضت الفنانة التونسية جل لوحاتها للبيع لتعيل أسرتها، وما كانت لتفعل ذلك لولا الحاجة، على حد قولها.

وتعتبر نجاة بامري أن الإعاقة في النهاية ليست إعاقة الجسد بل هي إعاقة الروح، مضيفة: ”إذا كان القلب ينبض بالتحدي والحب والإبداع، فالإعاقة ستصبح مجرد وهم".

1-1463
1-1492663
1-141113
1-1411111