بقلم – محمّد محمّد الخطابي: على إثر صدور كتابه (المخطوط القرمزي) - الذي حصل به على إحدى الجوائز الأدبية المهمّة في إسبانيا منذ بضع سنوات- قام الكاتب والشاعر والمسرحي الإسباني المعروف أنطونيو غالا بجولة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية لتقديم هذا الكتاب الفريد - أن كلمة القرمز التي استقرّت في اللغة الإسبانية منذ العهد الأندلسي كلمة معرّبة تعني صبغ أرمني أحمر يقال إنه "من عصارة دود يكون في آجامهم”- ويدور هذا المخطوط حول آخر ملوك دولة بني الأحمر في مدينة غرناطة السلطان أبي عبدالله الصغير الذي سلم آخر معاقل الإسلام في الأندلس للملكين الكاثوليكيين (فرناندو وإيزابيل) في 2 يناير 1492. وكتاب "المخطوط القرمزي” يأتي في شكل رواية أراد أنطونيو غالا من خلالها إزاحة الستار عن الوجه المروّع الأسود -على حد تعبيره- لما يسمّى بالذكرى الخمسمائة لاكتشاف أمريكا، وهو كتاب يتحدث عن اكتشاف من نوع آخر في التاريخ نفسه الذي وصل فيه "كريسطوبال كولومبوس” إلى العالم الجديد. كما يحاول هذا الكتاب "الرواية التاريخية” تسليط الأضواء على ما أطلق عليه من باب الخطأ والشطط؛ الاسترجاع أو "الاسترداد”،حيث يقول المؤلف "أنا لست على يقين أن استرجاعاً أو استرداداً يمكن أن يدوم ثمانية قرون، ففي العام 1808 م عندما تم غزو إسبانيا من طرف الفرنسيين دامت حرب الاستقلال أو "الاسترداد” خمسة أعوام لا غير. ويضيف غالا بالحرف الواحد: "ان الإسلام هو نحن، ولا يمكن أن نسير في إتجاه معاكس لما هو بداخلنا، فإسبانيا بدون إسلام لا يمكن فهمها، كما لا يمكن فهم لغتها، لأن اللغة الإسبانية هي عمليا لغتان أي أنهـــــا لغـــــة مزدوجـــــة اللســـان فهي لاتينية وعربية أيضاً. عصر الثقافة الرفيعة يشير غالا إلى انه عندما بدأ الحديث في كل مكان حول الاحتفال بالذكرى الخمسمائة للاكتشاف "ما أفظع هذه الكلمة!” "قلت إنني سأعالج الوجه المرّ لهذا الاكتشاف. واعتقد الجميع أنني سأكتب رواية أمريكية، في حين انصب اهتمامي على مرحلة بداية إراقة الدم في إسبانيا في 2 يناير 1492م، عندما تمّ تسليم غرناطة. وأصبحت إسبانيا فقيرة ومنعزلة لمدة قرون. وأصبحت الدول المسيحية بها هرمة بعد أن أفلت شمس الحضارات السامية العربية والإسلامية فيها. عندئذ انتهى عصر العلم والحكمة والفنون والثقافة الرفيعة والذوق والتهذيب. وتمّ مزج كل ما هو قوطي وإسلامي المحمّل بكل ما هو ناعم و رقيق، وبالمعارف العربية البليغة. وكان الذين يطلقون عليه غزواً، لا يدركون أنه كان في الواقع فتحاً ثقافياً أكثر من أي شيء آخر. ممّا جعل الإسبان يسبقون عصر النهضة بحوالي قرنين. إلا أنه بعد يناير 1492م انتهى كل شيء، أفل ذاك الإشعاع وإدارة الاقتصاد، والفلاحة، وكذا الأعمال والأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها العرب و اليهود. وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة ومغمومة ومخذولة. وكان عليها أن تنظر إلى الخارج، ومن ثم كان ما يسمّى بالاكتشاف. قصة آثارها باقية غالا يوضح أن المخطوط القرمزي ليس قصة تروى انتهت بانتهاء أحداثها، بل إن آثارها ما زالت قائمة حتى اليوم. ذلك أن التاريخ عادة ما يرويه أو يحكيه المنتصرون، وهم لا يكتفون بذلك وحسب، بل يعهدون إلى تشويه وشطب تاريخ الآخر المغلوب. ويضيف غالا "أن مكتبة قصر الحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة "مدينة الزهراء” التي كان بها ما ينيف على 600000 مجلد، وقد أحرقها أسقف طليطلة الكاردينال سيسنيروس العام 1501 م في مكان يسمّى "باب الرملة " بمدينة غرناطة، فاختفت العديد من الوثائق والمخطوطات، والمظان، وأمّهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماء أجلاء في مختلف فروع المعارف في الأندلس. ويقال إنّ الجنود الذين كلفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعض هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النار فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها. إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذهب والفضة آية في الرونق والبهاء. ويا لعجائب المصادفات، وغرائب المتناقضات، ففي المدينة التي نقل إليها ما تبقى من هذه الذخائر والنفائس (حوالي 4000 مخطوط) التي نجت من الحرق وهي مدينة "قلعة النهر” وتمّ إيداعها في الجامعة التي أسسها الكاردينال سيسنيروس نفسه، سيولد فيما بعد الكاتب الإسباني العالمي الذائع الصيت ميغيل دي سيرفانطيس صاحب رواية "دون كيشوت” الشهيرة المستوحاة من التراث العربي كذلك، كما يؤكد معظم الدارسين الثقات. أبوعبدالله الصغير رمز التخاذلويشير غالا إلى بذله جهداً كبيراً ومضنياً في البحث عن مادة روايته، وأنه انطلق في معالجته لهذه الشخصية التاريخية بدءاً بما هيّأ له أو أعدّ له ليصبح أميراً وليس حاكما. واكتشف أن أبا عبدالله الصغير أصبح في عيون الباحثين والمؤرخين والناس مخادعاً متخاذلاً جباناً فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذل فتقول؛ "وافق المسلمون على شروط التسليم ولم يكن في مقدورهم إلا أن يوافقوا. وتنازل السلطان أبو عبدالله عن آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان، فلما مرّ موكب الملكين الكاثوليكيين فيرناندو وإسابيل تقدّم فسلم مفاتيح المدينة، ثم لوى عنان جواده موليا. ووقف من بعيد يودع ملكاً ذهب، و مجداً ضاع، وكان هو بأعماله وسوء رأيه سبباً في التعجيل بضياعه. وكانت كلمات أمّه خير ما يمكن أن يوجّه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: "إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال”. وما زالت الرابية أو الأكمة التي ألقي منها آخر نظرة على غرناطة وقصر الحمراء ثمّ تنهّد فيها تنهيدة حرّى عميقة حيث عاتبته أمّه، تسمّى باسمه حتى اليوم. أوروبا ابنة التوليد هكذا أصبح هو المخطىء والمذنب وسببا من أسباب ضياع ملك العرب المسلمين بالأندلس. ونسي الناس الظروف و الملابسات، وأصبح الذين يحيطون به في حل من أمرهم. انطلاقا من هذه المعطيات قرّر غالا الكتابة عن هذه الشخصية التاريخية، لإبراز التأثير العربي والإسلامي الضارب بعمق في الروح الإسبانية. وبين غالا أن نيّته و قصده من خلال هذا العمل هو إبراز التأثير العربي والإسلامي في مختلف المرافق والتصرفات والسلوكيات الإسبانية، أيّ أنه يتوخى من وراء هذه الرواية إظهار ما ظل مخفيّا عن قصد وعن غير قصد، وتفنيد كل ما قيل من ترّهات. وهو يرى أن العنصرية لا تعني جهل أو إغفال دور الأجناس الأخرى المختلفة، بل إن العنصرية هي القول إن جنسه أو عرقه هو أسمى وأرقى من الآخر. وتتعرض روايته إلى محنة طرد المورسكيين من إسبانيا. ويرى أنهم كانوا يفوقون المسيحيين ثقافة وعلماً ومعرفة وتكويناً. قد كان هؤلاء المسيحيون، أميل إلى الكسل والمماطلة والتواكل، وكان كل همّهم هو القيام بغزوات وغارات على الممالك العربية أو التهجّم على الجماعات اليهودية، وكانوا يعيشون من هذه الغارات والتهجمات ، ثم جاء الاكتشاف بعد أن خلد الأبطال المتعبون إلى الراحة جرّاء ثمانية قرون من الصراع والمكابدة، فكان عليهم أن يخرجوا وأن يجوبوا في بلاد الله الواسعة وفي الآفاق البعيدة.توحيد إسبانيا عنوة ويشير "غالا” أن الملكين الكاثولكيين فيرناندو وإسابيل قاما بعد ذلك بتوحيد البلاد عنوة، ولم يعملا على "وحدتها” اختياراً. واستعمالاً في ذلك الأسلوب نفسه الذي استعمل في غزو أمريكا. وفي كلتا الحالتين عمل الإسبان في العالم الجديد على إخضاع الهنود لمملكتين اثنتين؛ هما مملكة الدّين، ومملكة التاج الإسباني. وهذا ما حدث في إسبانيا بالذات بعد أفول شمس العرب وحضارتهم. وصرّح الكاتب الإسباني أنطونيو غالا بأن التهجين والتوليد وتمازج الأجناس في إسبانيا هي حقيقة ماثلة لا يمكن نكرانها. و أكد أنه "لا يؤمن بالثقافات المنعزلة. فالثقافة عندما تكون ثقافة "خالصة” هي ثقافة وحسب وهي تكاد بهذه الخاصية أن تكون لا شيء”. وبين أن الشعوب الواقعة على ضفاف حوض المتوسط هي شعوب مثقفة بالمعنى الواسع والعميق للكلمة، لأنها شعوب عاشت وتعايشت وتفاعلت وتمازجت مع مختلف التأثيرات الثقافية المتداخلة التي تبتدئ من الشرق الأقصى للمتوسط انطلاقاً من اليونان وفارس، ومروراً بروما التي لم تضف شيئا يذكر للثقافة، وإنما قامت بعملية تنظيم وترتيب. ثم وصلت تلك الثقافة الجديدة المشرقة بواسطة الإسلام إلى إسبانيا. وعلى عاتق هذه الثقافة قامت أوروبا، فأوروبا إذن كما يقول "غالا” هي ابنة "التوليد” ولا يمكنها اليوم أن تصفف شعرها وتترنح وتتبجح فخورة بأنها عجوز ذات دم خالص.