عادة ما ترتبط الجرائم في شتى أنحاء العالم بأوصاف مثل "الشنيعة، البشعة، الوحشية، الإرهابية، اللإنسانية" في محاولة لإظهار القالب الذي نُفذت من خلاله، لكن وفي محاولة لتطبيق ذلك على ما حصل في الشمال السوري، الأحد، "عجزت الكلمات أمام هول الحادثة".

الطفلة "فاطمة الحمادي" وابن عمها "خالد" اختطفا، قبل يومين، من أمام منزل عائلتهما في منطقة مخيمات أطمة شمال غربي البلاد، وفي الوقت الذي كان فيه الأبوين ينتظران أي خبر عنهما تفاجئا بجثتيهما على الباب، وعليهما رسالة كتب فيها: "هدية حلوة للغالي أبو عوض وأبو المجد (والدي الطفلين) والجاي أصعب..".

ودفن الطفلين، صباح الاثنين، بعد ليلة وصفت بـ"السوداء" ومشاعر صادمة عاشتها عائلاتهما ومعظم السكان في الشمال الغربي لسوريا، والذي يخضع أمنيا وعسكريا لسيطرة "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقا).

ووفق ما أعلنت ما تسمى بـ"حكومة الإنقاذ السورية" والمتهمة بالتبعية لـ"تحرير الشام" فقد ألقت "وزارة داخليتها" القبض على مرتكب الجريمة، مشيرة إلى أنها "امرأة".

وقال وزير الداخلية فيها، محمد عبد الرحمن لحسابات رسمية تنشر أخبار "الحكومة": "تمكنا من القبض على الفاعلة، وبالتحقيق معها، اعترفت بقتل أبناء أشقاء زوجها".

وأضاف: "التحقيقات لا تزال مستمرة لمعرفة جميع ملابسات الحادثة".

وبحسب ما قال ناشطون إعلاميون، على اطلاع بتفاصيل الحادثة، بينهم الناشط الإعلامي عدنان الإمام: "لم يكن هناك أي خلافات بين أب الطفلين وأشخاص آخرين أو مجموعات في المنطقة"، مشيرا إلى أن "الجريمة هزّت الجميع. هناك أناس لم يصدقوا حتى الآن ما حصل".

ولم يسبق وأن شهدت المنطقة الشمالية الغربية من البلاد هكذا نوع من الجرائم، والتي باتت تستهدف بشكل أساسي الأطفال، ليس بغرض الفدية فحسب، بل لاعتبارات "انتقامية"، وهو ما تشير إليه الرسالة التي علقها المجرمون على جثة خالد وفاطمة.

ويوضح الناشط عدنان الإمام الذي التقى والد أحد الطفلين أن تقرير الطبابة الشرعية يظهر أن خالد وفاطمة قتلا خنقا، بينما ظهرت كدمات على معظم أنحاء جسديهما، وخاصة على جبهة الرأس.

والد الطفلة فاطمة، من جهته، قال في تصريح مقتضب لموقع "الحرة" إنه تلقى رسالة تهديدية أخرى، صباح الاثنين.

وطالبت هذه الرسالة عائلة الطفلين بمغادرة سوريا خلال عشرة أيام، حفاظا على حياتهم، كما تضمنت تهديدا لامرأة يدّعي كاتب الرسالة أنها رأته أثناء وضعه لجثتي الطفلين قرب منزل عائلتهما.

بين صورتين

منذ مطلع العام الماضي 2021 باتت الجرائم التي تستهدف الأطفال في سوريا "حدثا شبه يومي"، وفي الوقت الذي تركز معظمها في عمليات الخطف بغرض دفع الفدية, كما حصل مؤخرا للطفل فواز القطيفان، تحولت تصاعديا لتصل إلى القتل بهدف الانتقام.

وربما تتلخص قصة الطفلين خالد وفاطمة في صورتين، الأولى تداولها مستخدمون عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتظهرهما يلعبان معا على دراجة صغيرة أمام المنزل، في حين يجتمعان في الثانية إلى جانب بعضهما البعض، لكنهما ممددين بلا أرواح، ولا حول لهم ولا قوة.

وأثارت قصتهما في الساعات الماضية غضبا واسعا بين أوساط السوريين، والذين تساءلوا في مشاركات لهم على مواقع التواصل: "بأي ذنب قتل هذين الطفلين؟"، و"لماذا بات على الأطفال أن يدفعوا أرواحهم ثمنا لحالة الفلتان الأمني من جهة؟ وللصراعات الأخرى التي أقحموا فيها عنوة من جهة أخرى؟

الكاتب والناشط السياسي، حسن النيفي، يقول إن ما جرى بحق الطفلين "خالد وفاطمة" في بلدة الهبيط بريف إدلب "جريمة من الطراز الموغل في الوحشية".

ويضيف لموقع "الحرة": "إذ يندر أن يقوم بهكذا فعل سوى من تجرد من أي وازع إنساني، وانتمى إلى فصيلة الوحوش".

وبعيدا عن التوصيفات الجزئية للجريمة، يوضح النيفي أنه "يمكن التأكيد على أن ما حدث هو نتيجة وليس سببا، ذلك أن المناطق التي تحكمها سلطات الأمر الواقع، وخاصة في الشمال السوري باتت مناخا موبوءا ومرتعا لنمو الجريمة".

وهذا المناخ "الخطير" يرتبط بأن "تلك السلطات باتت سيطرتها محكومة بدور وظيفي أساسي هو تقوية نفوذها واستثمار المنطقة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، بعيدا عن أي جانب من جوانب التنمية المجتمعية، أو الاهتمام بحياة المواطنين وأمنهم الحياتي جسديا ونفسيا وحياتيا".

ويتابع الكاتب السوري: "هذا جعل شرائح كبيرة من المواطنين تعاني حالة من البؤس المعيشي، وتصلح لأن تكون مبعثا لكل أنواع الشذوذ الاجتماعي والأخلاقي".

"لا سلطة للقانون"

ووفقا لتقرير سابق أصدرته الجمعية الدولية لحقوق اللاجئين فإن "الأطفال في سوريا يدفعون الثمن الأكبر للحرب"، بينما هم "الفئة الأكثر تضررا، لأنهم ربما الأكثر احتياجا للحماية".

وعانت هذه الفئة خلال السنوات العشر الماضية من تداعيات العمليات العسكرية والإخفاء القسري والاعتقال، وعلى الرغم من انحسار هذه الظروف قليلا، تحول الموت إلى أشكال أخرى.

ويلقي السكان في شمال غربي سوريا باللوم على "هيئة تحرير الشام" في ضعف دورها في ردع هكذا نوع من الجرائم، على حساب محاولاتها للتمدد عسكريا واقتصاديا.

ولطالما تحدثت الجماعة المصنفة على قوائم الإرهاب عن "دورها في تعزيز أمن المنطقة"، إلا أن الظروف على الأرض تحول دون ذلك، بحسب ما تشير إليه إحصائيات لجهات حقوقية ومحلية.

محمود الإبراهيم عضو في المكتب الإعلامي لـ"مكتب شؤون الجرحى والمفقودين" في الشمال السوري يقول إنهم وثقوا منذ بداية فبراير الحالي 43 مفقودا في شمال غربي البلاد، عاد منهم 28 بينما لا يزال مصير 15 آخرين مجهولا.

ويوضح الإبراهيم لموقع "الحرة": "العدد الكلي للأطفال المفقودين في النسبة المذكورة هو 21. عاد منهم 14 وبقي 7 مجهولي المصير"، مشيرا إلى أن "نسبة الخطف لا تتجاوز 1 في المئة في المنطقة".

بدوره يقول الناشط السياسي، حسن النيفي إن "افتقار سلطات الأمر الواقع إلى سلطة القانون وكذلك إلى نظام أو برنامج أمني واجتماعي تكون فيه مصلحة المواطن وأمنه وحياته هي الأولوية، من الأسباب الجذرية التي تتيح مناخا لنمو الجريمة، وكافة أشكال التشظي المجتمعي وانعدام الأمن".

وإضافة إلى ذلك يشير النيفي إلى أن "تلك السلطات تستمد مشروعيتها في الأصل من حيازتها على عنصر القوة ومن قدرتها على التسلّط على المواطن، وليس من حالة إقرار مجتمعي أو أي شكل من أشكال التصالح الاجتماعي".

"انتهاك حق الأطفال بالحياة"

في غضون ذلك تقول ليلى حسو، مديرة الاتصال والدعوة في شبكة "حراس الطفولة"، وهي مؤسسة خيرية تعمل على حماية الأطفال في سوريا: "هناك حالة رفض عام لإقحام الأطفال في مثل هذه الحوادث، لكن للأسف هذا لايعني أنها لن تتكرر، لأن الأمر يتعلق بوعي المجتمع بأهمية اللجوء إلى القانون لحل الخلافات".

وتضيف حسو لموقع "الحرة" أن جريمة قتل الطفلين خالد وفاطمة "انتهاك واضح لحق الأطفال بالحياة، وهي جريمة جنائية على القانون أن يحاسب مرتكبيها، كي لا تتكرر مره أخرى".

"هذه الحوادث إلى اليوم فردية وليست متواترة"، لكن حسو تشير إلى أنها "تؤثر سلبا على الأطفال من ناحية الأمان، وعلى قدرة الأهل على إرسال أطفالهم للتعليم أو اللعب، خوفا من استخدامهم كوسيلة لحل الخلافات".

وتحدثت مديرة الاتصال في المؤسسة الخيرية أيضا عن أن هذه الجريمة "تدب الرعب لدى الأهالي والأطفال، مما يؤثر على صحتهم النفسية. يمكننا تصور الحالة النفسية لأصدقاء الطفلين الذين قتلوا!".

ودعت "أعضاء لجان الحماية المجتمعية إلى رفع الوعي لدى المجتمعات الذين يمثلوها لتلجأ إلى القانون في حل الخلافات وإبقاء الأطفال بعيدا عن خلافاتهم".

"عوامل وبيئة خصبة"

وحتى ساعة إعداد هذا التقرير لم ترد أي تفاصيل أخرى عن ملابسات جريمة قتل فاطمة وخالد ودوافعها، فيما أشار "المرصد السوري لحقوق الإنسان" وناشطون من إدلب إلى حالة من الاستنفار الأمني للقبض على الفاعلين.

من جانبه تحدث البروفيسور في علم الاجتماع، طلال مصطفى عن 3 عوامل يمكن ربطها بالحادثة، موضحا أنها اجتماعية واقتصادية بشكل أساسي، ومرتبطة بالبطالة وعدم وجود فرص عمل، فضلا عن تفكك البنى الاجتماعية، وخاصة الأسرة والمؤسسات الاجتماعية.

ويقول مصطفى لموقع "الحرة": "إذا ما نظرنا إلى سوريا ومنطقة الشمال التي تسيطر عليها قوى أمر واقع فنجد أن هناك بيئة اجتماعية خصبة لارتكاب الجرائم. أكثر من 85 في المئة من السكان تحت خط الفقر. أغلب الشبان عاطلين عن العمل، وهناك تصدع وتفكك في الأسرة".

ويضاف إلى ما سبق "غياب المنظومة الضابطة للسلوك الاجتماعي، بمعنى القانون والعادات الاجتماعية والأخلاق".

وبحسب مصطفى فإن الدوافع المذكورة تدفع "بازدياد معدل القتل والجرائم بشكل عام ليس فقط ضد الأطفال"، مضيفا "لا يوجد أحد يردع الناس في هذه المناطق. وفي جريمة اليوم كان الأطفال الفئة الأضعف".

ويتابع: "جريمة قتل خالد وفاطمة بشعة بكل ما تعنيه الكلمة اجتماعيا ودينيا. من ارتكب الجريمة لا علاقة له بالمنظومة القيمية ولا علاقة له بالدين الإسلامي ولا أي دين سماوي وغير سماوي آخر. من ارتكب الجريمة هو أسوأ من الوحوش".