الحرة
تُظهر تركيا منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا "حالة من الحياد"، وبينما يقول كبار مسؤوليها إنها لن تقف مع طرف ضد آخر، أعلنوا الاثنين أن بلادهم ستجمع في العاشر من مارس المقبل (الخميس) وزيري خارجية موسكو وكييف سيرغي لافروف ودميترو كوليبا، في خطوة هي الأولى من نوعها، على هذا المستوى.
ولم يكن هذا الاجتماع، الذي سيعقد على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي دون مقدمات، بل جاء الإعلان عنه عقب اتصال هاتفي استمر لساعة بين الرئيسين التركي والروسي رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين، وفي أعقاب سلسلة اتصالات أجريت مع المسؤولين في كييف أيضا.
وأفردت وسائل إعلام مقربة من الحكومة التركية، صباح الثلاثاء، مساحة للحديث عن الاجتماع المرتقب وعما سيفرضه على ساحة القتال الأوكرانية، فيما ذهب قسم منها للكشف عما وصف بـ"كواليس الاتصال الهاتفي بين إردوغان وبوتين".
ونشرت صحيفة "صباح" تقريرا، مساء الاثنين، نقلت فيه عن مصادر في "حزب العدالة والتنمية" الحاكم، قولها إن إردوغان تحدث لبوتين أن بلاده "يمكنها إجراء المعاملات التجارية مع روسيا باليورو والروبل واليوان والذهب، بصرف النظر عن الدولار".
وأضافت المصادر، التي لم تسمها الصحيفة، أن بوتين رد على إردوغان بالقول إنه "سيصدر تعليمات لإرسال 30 سفينة محملة بالزيوت والقمح إلى تركيا بعد توقفها في موانئ بحر آزوف، بسبب الحرب".
وهذه المعلومات أكدها موقع "خبر تورك" من جهة، والكاتب التركي المقرب من الحكومة، عبد القادر سيلفي من جهة أخرى، حيث كتب مقالة في صحيفة "حرييت" الثلاثاء، ذكر فيها أن المعلومات التي نقلت عن إردوغان قالها في أثناء اجتماع المجلس التنفيذي المركزي لـ"العدالة والتنمية".
وقال الكاتب سيلفي إن "الكواليس الخلفية لاجتماع إردوغان وبوتين لها أهمية كبيرة، بالنظر إلى فرض عقوبات شديدة على روسيا، وأنه سيتم إزالتها من نظام سويفت في 12 مارس"، مضيفا: "ولأن روسيا شريك تجاري مهم جدا لنا".
ويشير الكاتب إلى أن أكثر من 3000 شركة تركية تعمل في روسيا، بينما تستضيف تركيا 5 ملايين سائح، فيما نما حجم التجارة بين البلدين بشكل سريع، خلال الفترة الأخيرة، وتجاوز 32.5 مليار دولار.
ولم يصدر أي تعليق رسمي، من جانب موسكو أو أنقرة، عن فحوى الاتصال الهاتفي، وكانت وسائل إعلام رسمية في كلا البلدين أوضحت أن إردوغان أكد في حديثه لبوتين على "ضرورة وقف إطلاق النار" والتوصل إلى حل سلمي لما يحصل في أوكرانيا.
"تحويل الأزمة إلى فرصة"
وذكر الكاتب عبد القادر سيلفي في سياق مقالته أنه "ليس من الواضح ماذا سيكون موقف تركيا مع اشتداد العقوبات ضد روسيا".
ويضيف أن "إردوغان بهذا الاقتراح يمد يده إلى روسيا المنعزلة عن النظام الدولي، والمعزولة بطريقة تاريخية".
وفرضت الدول الغربية سلسلة عقوبات على روسيا، منذ يوم 24 فبراير الماضي، تهدف إلى شل قطاعها المصرفي وعملتها الوطنية، بعد شنها هجوما عسكريا على أوكرانيا.
وقضت العقوبات بصورة خاصة باستبعاد العديد من المصارف الروسية من نظام سويفت الذي يلعب دورا مركزيا، إذ يسهّل الحوالات بين المصارف العالمية. ويوصف هذا الإجراء بالتالي بأنه "سلاح ذري" على الصعيد المالي.
وطالت العقوبات أثرياء روسيا بمن فيهم أصحاب النفوذ والمقربون من الرئيس بوتين، ومن يعرفون بـ"الأوليغارش".
ويوضح الكاتب التركي أن الخطوات التركية التي يتم الكشف عنها تهدف بالمنظور العام إلى "تحويل الأزمة إلى فرصة"، مؤكدا على "إشارة إردوغان إلى سياسية الحياد بالقول: "لن نتنازل عن روسيا ولا أوكرانيا".
وتابع سيلفي: "بوجود تعاون اقتصادي قوي مع البلدين، فإن تركيا مصممة على الحفاظ على سياسة التوازن والحياد".
"ضوء في الظلام"
في غضون ذلك اعتبرت الكاتبة التركية، هاندي فيرات، في مقالة لها على صحيفة "حرييت" أنه "لا يزال من السابق لأوانه الإجابة على الأسئلة بشأن ما إذا كانت الاجتماعات بين الروس والأوكرانيين ستستمر في تركيا أم ستتسع القائمة".
وتصف الكاتبة الاجتماع المرتقب بين لافروف ونظيره الأوكراني في أنطاليا بأنه "ضوء في الظلام"، مشيرة إلى حديث المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، الأسبوع الماضي، بقوله إن هناك حاجة إلى وسيط محايد في قضية أوكرانيا.
وذكر كالن أنه بعد أن "أحرق الغرب الجسور"، سيتعين على طرف آخر للتحدث إلى روسيا.
وتضيف الكاتبة التركية في مقالتها التي نشرت الثلاثاء: "لا شك أن تركيا تستوفي هذا المعيار. الأزمة فرصة لتركيا. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على ترتيب الطاولة واستمرار الحرب يشكل مخاطرة كبيرة. خاصة من الناحية الاقتصادية".
وكانت أنقرة طبقت اتفاقية "مونترو" ومنعت المزيد من السفن الروسية من العبور إلى البحر الأسود، لكنها وعلى الطرف المقابل قالت إنها لا تنوي فرض عقوبات على موسكو، ولن تغلق مجالها الجوي أيضا.
وبينما دعت إلى احترام أراضي أوكرانيا ووحدتها واستقلالها، قال إردوغان في إحدى تصريحاته: "لن نتنازل عن مصالحنا الوطنية مع مراعاة التوازنات الإقليمية والعالمية، ولذلك نقول إننا لن نتخلى لا عن أوكرانيا ولا عن روسيا".
بدوره استعرض المنسق العام لمؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية (سيتا)، برهان الدين دوران، تطورات الأيام الماضية من الحرب الروسية على أوكرانيا، واعتبر أنه و"مع غزو أوكرانيا، وضع بوتين حياته السياسية بأكملها على المحك".
ويقول دوران في مقالة نشرتها صحيفة "صباح" الثلاثاء: "تبرز أسماء الصين والهند وإسرائيل وتركيا" كأطراف وسيطة للحل، لكن "الاسم الذي يمكن للزعيمين المتحاربين الاعتماد عليه هو إردوغان، الذي أصر على الوساطة منذ بداية الأزمة الأوكرانية".
ويضيف الخبير التركي: "كواحدة من الدول المتضررة من هذه الحرب، لا تريد تركيا خسارة كل من روسيا وأوكرانيا"، مشيرا إلى أن "موقفها واضح. تريد انسحاب القوات الروسية وتدعم استقلال أوكرانيا / وحدة أراضيها، واستمرارا للتعاون مع أوكرانيا في صناعة الدفاع، تواصل تقديم الطائرات المسيرة".
وعلى الطرف المقابل تحدث دوران عن قرار "إغلاق المضائق" في وجه الطرفين المتحاربين، معتبرا أن ذلك "يختلف مع العزلة الهائلة ضد روسيا بشأن العقوبات وشيطنة بوتيم".
وبدلا عن العقوبات والمسار الذي تتخذه الدول الغربية "تريد تركيا البقاء في موقف يمكنها من إقامة علاقة ثقة مع موسكو وكييف في نفس الوقت".
ويوضح الخبير التركي أن "الحكومة تتعامل بشكل ديناميكي مع الأزمة الأوكرانية. الهدف هو حماية تركيا من آثار الحرب قدر الإمكان، والمساهمة في سياسة يمكن أن تمهد الطريق للسلام".
هل يمكن التخلي عن الدولار؟
وتعد روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي لتركيا، وتقوم أيضا ببناء أول محطة للطاقة النووية في البلاد.
ومن المتوقع أن يتم تشغيل المفاعلات الأولى في عام 2023، فيما يتجاوز حجم التجارة بين البلدين 20 مليار دولار، وهو رقم سبق أن قال المسؤولون إنهم بصدد زيادته إلى 100 مليار دولار.
وفضلا عن ذلك، ووفقا لبيانات معهد الإحصاء التركي، بلغت حصة روسيا من إجمالي واردات تركيا من القمح ومشتقاته 66 بالمئة في 2021، بينما كانت حصة أوكرانيا 18.5 بالمئة.
وفي وقت بلغ حجم الإنتاج التركي من القمح قرابة 21 مليون طن في 2020، فإن السبب الرئيسي لزيادة الواردات التركية من هذه المادة هو تلبية ارتفاع الطلب في قطاع صادرات المواد المصنعة من مادة القمح أو الدقيق.
ومن هنا يطرح تساؤل عن مدى نجاح المضي بالتعاملات التجارية بين روسيا وتركيا، بعيدا عن الدولار، ومن حساب العملات الثلاث التي تحدث عنها إردوغان، بحسب الصحف التركية.
وتحدث أستاذ الإدارة المالية في جامعة "باشاك شهير"، الدكتور فراس شعبو عن آثار اقتصادية سلبية بدأت تنعكس على تركيا، من حيث أسعار النفط والقمح والذهب.
ويقول إن الأزمة التي يعيشها الاقتصادي العالمي "ستنعكس على الوضع التركي بالتأكيد، من ارتفاع الأسعار وبالتالي ارتفاع تكاليف الإنتاج، وازدياد الحالة التضخمية".
ويضيف شعبو في حديث لموقع "الحرة" أن "حجم التجارة بين روسيا وتركيا ليس بالقليل، وبذلك فإن العقوبات ستؤثر على الجانبين، كما أنها ستشكل تضييقا ماليا على اقتصاديات الدول التي تتعامل مع موسكو".
وبخصوص التبادلات التجارية، وعما إذا كان من الممكن إجرائها بعيدا عن التعامل بالدولار، يوضح الباحث الاقتصادي أنها ممكنة، "كون روسيا لها مصالح تجارية في تركيا، والعكس كذلك، وخاصة على صعيد الغاز".
وتستورد تركيا نحو ثلثي غازها من روسيا، ويتابع الباحث: "هنا سيتم الدفع بالعملة المتفق عليها سواء الليرة التركية والروبل، لكن المشكلة أن العملتين غير مستقرتين، وهذا سيفضي إلى مشكلة في الحساب".
ويؤكد شعبو: "مهما كانت العملية التجارية بين الطرفين، فإن التسعير سيكون بالدولار. روسيا في طور العقوبات ستلجأ إلى أساليب أخرى للالتفاف وهي التعامل بعملات بينية مع الدول".