الشرق الأوسط
غنيٌّ عن القول إن الحرب في أوكرانيا غيّرت المشهد العالمي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وأثبتت أن العالم الذي ارتسمت معالمه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اجتاز معظم مراحل الانتقال نحو واقع جديد. ولا عجب في أن تفعل هذه الحرب فعلها في مسرحها المباشر، ولا نعني بذلك أوكرانيا فحسب بل أوروبا التي يقول كثر خطأً إنها نعمت بالاستقرار منذ هزيمة النازية، ناسين ما حل بيوغوسلافيا السابقة من حروب وفظائع أواخر القرن العشرين.
لا بد في خضم هذا المشهد من التذكير بأن أوروبا هي قارة الحروب بامتياز، ويكفي لفهم ذلك النظر إلى خريطة العالم لنرى كيف تقع هذه القارة عند تقاطع أقواس النفوذ العالمي... إنها معادلة الجغرافيا والتاريخ، أو ربما لعنتهما.
في صدارة «الملعب» الأوروبي، لا تقف دول متاخمة لروسيا أو كانت أعضاء في حلف وارسو فحسب، بل نرى ألمانيا التي لم تكد تخرج من مرحلة السيدة أنجيلا ميركل إلى واقع سياسي جديد حتى وجدت نفسها مجدداً في مواجهة نيران الحرب.
ألمانيا كانت مسرحاً ومحوراً للحرب الباردة أكثر من سواها، ودفعت ثمناً باهظاً على مدى عقود تقسيماً لها إلى دولتين لم ينته إلا عام 1990 في عهد المستشار هيلموت كول. ومنذ ذلك الحين اعتمدت ألمانيا الموحَّدة إلى حد كبير سياسة ألمانيا الغربية، ومؤداها عدم التدخل العسكري الخارجي (إلا في في السنوات الأخيرة عبر مهمات حفظ سلام) والتركيز على النمو الاقتصادي، وتعزيز الوحدة الأوروبية عبر تمتين الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع فرنسا في المقام الأول.
منذ عهد المستشار كونراد أديناور في الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي إلى عهد هيلموت كول في الثمانينات والتسعينات، آمنت ألمانيا بالمشروع الأوروبي وبأن التكامل هو السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم ومستدام، وبأنها تقف في صلب هذا المشروع.
وكانت السنوات التي أمضتها أنجيلا ميركل في الحكم امتداداً لهذه الفلسفة التي شملت التعامل مع روسيا في شكل تعاون اقتصادي كبير، خصوصاً في مجال الطاقة. والكل يتذكر كيف قاومت ميركل الضغوط الأميركية لوقف مشروع «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الروسي عبر الأنابيب الممتدة في بحر البلطيق إلى قلب ألمانيا، متمسكةً بالأهمية الاقتصادية الحيوية لهذا المشروع ونازعة عنه أي بعد جيوسياسي يعزز النفوذ الروسي ويهدد الأمن الأوروبي كما كانت تؤكد واشنطن.
*الحرب والتغيرات
... اندلعت الحرب ودخلت القوات الروسية أوكرانيا فتغيّر كل شيء.
وها هي حكومة المستشار أولاف شولتس، المكونة من ائتلاف يضم الديمقراطي الاجتماعي والخضر والديمقراطي الحرّ، تبدّل اتجاه عقارب الساعة - ربما إلى الوراء وربما إلى الأمام – فتخفف القيود المتشددة المفروضة على تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاعات وتقرر تزويد أوكرانيا أسلحة دفاعية مثل الصواريخ المضادة للدروع وأخرى للطائرات، لأنه «لا يجوز ترك أوكرانيا مجردة من وسائل الدفاع عن نفسها»، كما قالت وزيرة الخارجية «الخضراء» أنالينا بيربوك للبرلمان الاتحادي (بوندستاغ).
والأهم من ذلك أن أي كلام عن تعزيز الجيش الألماني كان حتى أمس قريب يُعتبر بمثابة ترويج للحرب، أما اليوم فقد قررت الحكومة رفع القدرات العسكرية عبر إنشاء صندوق قيمته 100 مليار يورو لتطوير دبابات وطائرات جديدة بالتعاون مع شركاء أوروبيين أهمهم فرنسا. وإلى جانب الصندوق، سترتفع الموازنة الدفاعية السنوية التي حددتها الحكومة أخيراً بـ 50 مليار يورو للسنة المقبلة.
تتطلب زيادة القوة العسكرية حكماً رفع مستوى الإنفاق، وهذا يعني تحميل الاقتصاد الألماني مزيداً من الأعباء التي ستضاف إلى أعباء معالجة التداعيات المالية التي خلّفتها جائحة «كوفيد – 19». والمؤكد أن هذا الأمر ما كان ليمرّ بسلاسة في ذهن المواطن الألماني لو لم يرعبه مشهد الحرب في أوكرانيا.
ولا ننسى هنا الالتفات إلى مشكلة مصادر الطاقة التي يرجَّح أن تواجهها ألمانيا كونها تستورد أكثر من 50 في المائة من نفطها و40 في المائة من غازها من روسيا. وهما نسبتان لا يمكن الاستغناء عنهما وإيجاد مصادر بديلة للطاقة خلال وقت وجيز، خصوصاً أن ألمانيا ستتخلى كلياً عن المحطات النووية لتوليد الكهرباء بحلول نهاية العام الحالي وفق خطة وُضعت عام 2011.
وفوق هذا كله، على ألمانيا أن تتحمّل أعباء آلاف من اللاجئين الأوكرانيين الذين لا يمكن للاتحاد الأوروبي إيصاد الأبواب في وجوههم، بل يجب «توفير الحماية لهم لمدة تصل إلى ثلاث سنوات»، كما قالت وزير الداخلية الألمانية نانسي فيزر...
الخلاصة أن سياسة «نورد ستريم 2» - إذا جاز التعبير – انتهت. وعلى برلين الآن أن تنبري لصَوغ سياسة جديدة للاتحاد الأوروبي تجاه أوروبا الشرقية القلقة، علماً أن ليس لألمانيا من حليف قارّي قوي سوى فرنسا بعد ابتعاد بريطانيا عن القارة العجوز لتشدّ رحالها نحو الأطلسي. بمعنى آخر، انتهت سياسة "أوستوبوليتيك" الألمانية، أي السياسة الشرقية التي قامت على معالجة العلاقات مع المعسكر الشرقي السابق بـ«دواء» الاقتصاد، وها هي «ألمانيا تستيقظ»، كما قالت وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة آنا بالاسيو (2002 – 2004)، على أمل أن تضطلع بدور حماية أوروبا من الأعداء الذين قد يختلف كثر حيال تحديد هوياتهم.
غنيٌّ عن القول إن الحرب في أوكرانيا غيّرت المشهد العالمي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وأثبتت أن العالم الذي ارتسمت معالمه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اجتاز معظم مراحل الانتقال نحو واقع جديد. ولا عجب في أن تفعل هذه الحرب فعلها في مسرحها المباشر، ولا نعني بذلك أوكرانيا فحسب بل أوروبا التي يقول كثر خطأً إنها نعمت بالاستقرار منذ هزيمة النازية، ناسين ما حل بيوغوسلافيا السابقة من حروب وفظائع أواخر القرن العشرين.
لا بد في خضم هذا المشهد من التذكير بأن أوروبا هي قارة الحروب بامتياز، ويكفي لفهم ذلك النظر إلى خريطة العالم لنرى كيف تقع هذه القارة عند تقاطع أقواس النفوذ العالمي... إنها معادلة الجغرافيا والتاريخ، أو ربما لعنتهما.
في صدارة «الملعب» الأوروبي، لا تقف دول متاخمة لروسيا أو كانت أعضاء في حلف وارسو فحسب، بل نرى ألمانيا التي لم تكد تخرج من مرحلة السيدة أنجيلا ميركل إلى واقع سياسي جديد حتى وجدت نفسها مجدداً في مواجهة نيران الحرب.
ألمانيا كانت مسرحاً ومحوراً للحرب الباردة أكثر من سواها، ودفعت ثمناً باهظاً على مدى عقود تقسيماً لها إلى دولتين لم ينته إلا عام 1990 في عهد المستشار هيلموت كول. ومنذ ذلك الحين اعتمدت ألمانيا الموحَّدة إلى حد كبير سياسة ألمانيا الغربية، ومؤداها عدم التدخل العسكري الخارجي (إلا في في السنوات الأخيرة عبر مهمات حفظ سلام) والتركيز على النمو الاقتصادي، وتعزيز الوحدة الأوروبية عبر تمتين الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع فرنسا في المقام الأول.
منذ عهد المستشار كونراد أديناور في الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي إلى عهد هيلموت كول في الثمانينات والتسعينات، آمنت ألمانيا بالمشروع الأوروبي وبأن التكامل هو السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم ومستدام، وبأنها تقف في صلب هذا المشروع.
وكانت السنوات التي أمضتها أنجيلا ميركل في الحكم امتداداً لهذه الفلسفة التي شملت التعامل مع روسيا في شكل تعاون اقتصادي كبير، خصوصاً في مجال الطاقة. والكل يتذكر كيف قاومت ميركل الضغوط الأميركية لوقف مشروع «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الروسي عبر الأنابيب الممتدة في بحر البلطيق إلى قلب ألمانيا، متمسكةً بالأهمية الاقتصادية الحيوية لهذا المشروع ونازعة عنه أي بعد جيوسياسي يعزز النفوذ الروسي ويهدد الأمن الأوروبي كما كانت تؤكد واشنطن.
*الحرب والتغيرات
... اندلعت الحرب ودخلت القوات الروسية أوكرانيا فتغيّر كل شيء.
وها هي حكومة المستشار أولاف شولتس، المكونة من ائتلاف يضم الديمقراطي الاجتماعي والخضر والديمقراطي الحرّ، تبدّل اتجاه عقارب الساعة - ربما إلى الوراء وربما إلى الأمام – فتخفف القيود المتشددة المفروضة على تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاعات وتقرر تزويد أوكرانيا أسلحة دفاعية مثل الصواريخ المضادة للدروع وأخرى للطائرات، لأنه «لا يجوز ترك أوكرانيا مجردة من وسائل الدفاع عن نفسها»، كما قالت وزيرة الخارجية «الخضراء» أنالينا بيربوك للبرلمان الاتحادي (بوندستاغ).
والأهم من ذلك أن أي كلام عن تعزيز الجيش الألماني كان حتى أمس قريب يُعتبر بمثابة ترويج للحرب، أما اليوم فقد قررت الحكومة رفع القدرات العسكرية عبر إنشاء صندوق قيمته 100 مليار يورو لتطوير دبابات وطائرات جديدة بالتعاون مع شركاء أوروبيين أهمهم فرنسا. وإلى جانب الصندوق، سترتفع الموازنة الدفاعية السنوية التي حددتها الحكومة أخيراً بـ 50 مليار يورو للسنة المقبلة.
تتطلب زيادة القوة العسكرية حكماً رفع مستوى الإنفاق، وهذا يعني تحميل الاقتصاد الألماني مزيداً من الأعباء التي ستضاف إلى أعباء معالجة التداعيات المالية التي خلّفتها جائحة «كوفيد – 19». والمؤكد أن هذا الأمر ما كان ليمرّ بسلاسة في ذهن المواطن الألماني لو لم يرعبه مشهد الحرب في أوكرانيا.
ولا ننسى هنا الالتفات إلى مشكلة مصادر الطاقة التي يرجَّح أن تواجهها ألمانيا كونها تستورد أكثر من 50 في المائة من نفطها و40 في المائة من غازها من روسيا. وهما نسبتان لا يمكن الاستغناء عنهما وإيجاد مصادر بديلة للطاقة خلال وقت وجيز، خصوصاً أن ألمانيا ستتخلى كلياً عن المحطات النووية لتوليد الكهرباء بحلول نهاية العام الحالي وفق خطة وُضعت عام 2011.
وفوق هذا كله، على ألمانيا أن تتحمّل أعباء آلاف من اللاجئين الأوكرانيين الذين لا يمكن للاتحاد الأوروبي إيصاد الأبواب في وجوههم، بل يجب «توفير الحماية لهم لمدة تصل إلى ثلاث سنوات»، كما قالت وزير الداخلية الألمانية نانسي فيزر...
الخلاصة أن سياسة «نورد ستريم 2» - إذا جاز التعبير – انتهت. وعلى برلين الآن أن تنبري لصَوغ سياسة جديدة للاتحاد الأوروبي تجاه أوروبا الشرقية القلقة، علماً أن ليس لألمانيا من حليف قارّي قوي سوى فرنسا بعد ابتعاد بريطانيا عن القارة العجوز لتشدّ رحالها نحو الأطلسي. بمعنى آخر، انتهت سياسة "أوستوبوليتيك" الألمانية، أي السياسة الشرقية التي قامت على معالجة العلاقات مع المعسكر الشرقي السابق بـ«دواء» الاقتصاد، وها هي «ألمانيا تستيقظ»، كما قالت وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة آنا بالاسيو (2002 – 2004)، على أمل أن تضطلع بدور حماية أوروبا من الأعداء الذين قد يختلف كثر حيال تحديد هوياتهم.