الحرة
شاميسا يوسفو، كانت مجرد طفلة عادية تعيش في إحدى قرى النيجر الفقيرة قبل أن تشاء لها الأقدار أن تصبح رمزا لمقاومة الزواج القسري للقاصرات، وهي التي عانت ويلاته قبل أن تكمل ربيعها الرابع عشر.
وبحسب تقرير خاص لصحيفة "التايمز" البريطانية، فإن ثلاث من كل أربع فتيات في النيجر يتزوجن قبل بلوغهن سن الثامنة عشرة، وهو أعلى معدل لزواج الأطفال في العالم، وذلك في بلد لا يتجاوز دخل الشخص العادي فيه 40 دولارا شهريا، ما يجعله أحد أكثرها فقرا.
"الخالة الحنون"
وبدأت قصة تشاميسا المؤلمة، بحسب وصفها، عندما كانت عائدة من مدرستها سعيدة، لتفاجأ بوجود رجل يكبرها بعشر أعوام يعرض على أهلها الارتباط بها وقد أغارهم ببريق بالمال والذهب.
ورغم رفضها والإفصاح لوالدها عن رغبتها بإكمال تعليمها حتى الانتهاء من دراستها الجامعية، فإنها لم تجد آذانا صاغية.
وعقب أسبوع من تلك الزيارة، جرى عقد قران الطفلة دون علمها أو أخذ موافقتها، لتجد نفسها بعد ذلك وقد أرسلتها عائلتها إلى منزل زوجها في بلدة أخرى، حيث بدأت تعاني من العنف المنزلي والقهر ووضع أعباء كبيرة من المهام اليومية على أكتافها الغضة.
ولم تمض سوى أشهر قليلة، حتى أضمرت تلك الطفلة في نفسها الرحيل والهرب مستغلة حفنة من النقود أعطاها إياها زوجها لشراء بعض حاجيات المنزل، بيد أنها استقلت بهم حافة لتتوجه إلى العاصمة، نيامي، حيث تلقفتها إحدى خالاتها المتعاطفات معها.
وضمت تلك الخالة الحنون شاميسا تحت جناحها قبل أن تواجه والديها اللذين حاولا استعادتها، مهددة إياهما بتقديم شكوى ضدهما باعتبار أن القانون يجرم زواج الفتيات قبل سن الخامسة عشرة.
" عالم مثالي"
وحاليا، تلتقي شاميسا بمجموعات من الأمهات كل أسبوع، في كوخ صغير من القش، على أمل إقناعهن بعدم تزويج فتياتهن اليافعات، وذلك في إطار جهود تقودها منظمة "أغير بلس"، وهي مؤسسة خيرية تساعد الفتيات الهاربات من الزواج القسري، وتوفر لهن سكنا مؤقتا وتدريباً مهنيا على أمل أن يصبحن سيدات مستقلات ذات يوم.
وفي كل اجتماع تواجه شاميسا موجة من الانتقادات والتساؤلات الانفعالية من لدن بعض الأمهات، لكن تؤكد أنها تشعر بالسعادة والمرح خلال نقاشها معهن، لافتة إلى أن محاولاتها بإقناع تلك النسوة بالسماح لبناتهن بإكمال تعمليهن تواجه مقاومة شديدة في كثير من الأحيان.
وكانت هانتو علي، وهي والدة لثمانية أطفال، من بين النساء اللواتي استطاعت شاميسا أن تكسبهن إلى صفها، إذ أكدت أنها سوف تسمح لفلذات أكبادها من البنات باختيار أزواجهن عندما يبلغن سن الرشد.
وتشدد هانتو على أن الرسالة النبيلة التي تؤديها شامسيا مهمة للغاية، مردفة: "إذا كان لدينا المزيد من الفتيات مثلها، فسيكون ذلك رائعا. إنها قدوة يحتذى بها".
ومع ذلك، تحتاج سيدات أخريات إلى جهود مضنية للسير على خطى هانتو، ففاطمة حسن، البالغة من العمر، 47 عامًا، ولديها 10 أطفال، تقول: "لو كنا نعيش في عالم مثالي، فإننا جميعا نود أن نرى فتياتنا وقد بلغن سن العشرين أو الخامسة والعشرين قبل أن نزفهن إلى بيوت أزواجهن".
وتضيف بحسرة: "لكن تكاليف الحياة غالية، وليس لدينا من المال ما يكفي لتحمل أعباء الدراسة وإطعام الأفواه".
تكالب الجفاف والعنف
ومع الفقر والعوز، تعاني النيجر أيضا من الجفاف وعنف الجماعات الأصولية الذي وصل إليها من مالي وبوركينا فاسو المجاورتين، وبالتالي فإن القرويين يكافحون من أجل زراعة أراضيهم وسط تكالب الظروف المناخية والعنف عليهم لتزداد أوضاعهم فاقة وسوءا، وهو الأمر الذي يدفع الكثير من هم إلى تزويج صغيراتهم خوفا عليهن من السبي أو قلة ذات اليد.
وقد أدى العنف إلى نزوح الكثير من العائلات والعيش في مخيمات للنزوح والاعتماد على مساعدات دولية، وفقا لدراسات أجرتها الأمم المتحدة.
وفي عيادة ببلدة ديمول الواقعة على أطراف العاصمة نيامي، تبدو عواقب الزواج المبكر جلية للعيان، فمعظم المرضى من الفتيات مصابات بناسور الولادة، وهو ثقب يحدث بين المهبل والمستقيم أو المثانة بسبب اختلاطات الولادة التي لا تتحملها أجسادهن الصغيرة وبالتالي يعانين من سلس وتسرب البول.
وتقول مديرة العيادة، سالاماتو تراوري، "زواج الصغيرات أمر خطير لأن أجسادهن لا تكون جاهزة لتحمل مضاعفات الحمل والولادة، وما يزيد الأمور سوءا أنهن يعشن في قرى ومناطق نائية لا تتوافر فيها الخدمات الصحية بحد أدنى من الجودة".
ارتفاع في المعدلات العالمية
تجدر الإشارة إلى أن معدلات زواج الأطفال العالمية قد ارتفعت بشكل كبير بسبب تفشي وباء كورونا وما نجم عنه من إغلاق للمدارس، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية التي هزت الكثير من الدول الفقيرة في الآونة الأخيرة.
وتتوقع منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" أن تتزوج 61 مليون فتاة صغيرة خلال السنوات الثلاث المقبلة، رابطة ذلك بمعدلات أعلى من العنف المنزلي وعدم المساواة بين الجنسين وانتشار مزيد من الفقر.
ولكن شاميسا كانت من بين الفتيات القلائل في النيجر اللائي نجين من هذا المصير بفضل إرادتها وتصميمها، حيث تتلقى إلى جانب 300 فتاة أخرى دورات مهنية تشرف عليها منظمة "أغير بلس" سعيا لتحيق حلمها بأن تصبح ممرضة ذات يوم، وأن تلتقي رجلا يناسبها تحبه ويحترمها وتؤسس معها أسرة تعنى بأطفالها ولا ترمي بصغيراتها إلى التهلكة.
ولدى سؤالها فيما إذا كانت سوف تواصل رسالتها في إقناع الأمهات بعدم تزويج فتياتهن، تجيب ضاحكة: "أعتقد أنني أحقق نجاحات، ومن الجيد مناقشة هذه القضايا.. هو صراع طويل ويحتاج إلى الصبر والمثابرة".