الحرة
مع استمرار الاشتباكات الدامية بين الجيش وقوات الدعم السريع، بات السكان العالقين في العاصمة السودانية الخرطوم يعانون من نقص متزايد في إمدادات الغذاء والماء وانقطاعات كبيرة في التيار الكهرباء، ناهيك عن تزايد تعرض المناطق السكنية للقصف وإطلاق النار العشوائي الذي يهدد حياتهم.
وقالت تغريد عابدين، وهي مهندسة معمارية تبلغ من العمر 49 عامًا، كانت تحتمي مع أبنائها الثلاثة وزوجها في الديوم، وهو حي قريب من مطار الخرطوم الدولي، "نشعر باليأس بشكل متزايد لأنه لا توجد نهاية في الأفق".
وتضيف في حديثها عبر الهاتف إلى صحيفة "نيويورك تايمز" أنها باتت تقضي سحابة أيامها في نقل أولادها من غرفة إلى أخرى على أمل حمايتهم الرصاص والقذائف التي تصل إلى مسامعهم بين الفنية والأخرى.
وأشارت إلى أنها تسمح لأطفالها بالجلوس عند النوافذ في فترات الهدوء لاستنشاق بعض النسيم العليل في ظل قيظ الصيف الحار، حيث بالكاد توجد كهرباء لاستخدامها في تشغيل المكيفات أوالمراوح التي تخفف من حرارة هذا الفصل القاسي.
وأردفت: "ما يحدث لنا مأساة غير مرئية"، مضيفة أنها بدأت تفضل ضجيج الحرب على الصمت المطبق لأنه بحسب كلامها: "على الأقل عندما يكون هناك إطلاق نار، أعلم أن الذخيرة سوف تنفد".
أسباب عديدة و"بقاء مر"
ويقول سكان الخرطوم إنهم بقوا إما بسبب المرض أو لرعاية الأقارب المسنين أو لعدم وجود جوازات سفر أو المال اللازم للتنقل، بينما فضل آخرون، مثل تغريد عابدين، البقاء في منازلهم بعد أن تناهى إلى مسامعهم تعرض الناس لعمليات سلب وسرقة على الطريق، ناهيك عن قضاء أيام طويلة في العراء عند المعابر الحدودية.
ومن أهم مظاهر معاناة سكان العاصمة الخرطوم، تضرر البنية التحتية للمياه والكهرباء، بالإضافة إلى نهب البنوك وتحطيم أجهزة الصراف الآلي.
كما أصيبت أيضا شبكات الهواتف الإنترنت بأضرار كبيرة، مما أدى إلى قطع الاتصال وإعاقة المعاملات المالية عبر الهاتف المحمول التي كانت بمثابة شريان حياة للكثير من سكان العاصمة.
وفي نفس السياق، تعرضت المصانع والشركات للتدمير والنهب، وهو الأمر الذي تسبب في حرمان الكثير من دخلهم الوحيد وتركهم نهبا للحاجة والعوز.
وعبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، أضحى الناس يطلبون بعض الأدوية البسيطة مثل المسكنات أو قطرات العين، كما باتوا يسألون عن الأماكن التي يوجد فيها مياه صالحة للشرب أو بقعة آمنة لدفن قريب أو عزيز بعيدا عن أعين القناصة.
"مشهد سريالي"
ورغم صعوبة التواصل عبر الهاتف، بيد أن عابدين استطاعت أن تقدم لمحة عما رأته مؤخرًا عندما خرجت من شقتها لأول مرة منذ بدء القتال في 15 أبريل للعثور على دواء لأمها البالغة من العمر 80 عامًا، وهي طريحة الفراش وتعاني من ارتفاع ضغط الدم.
وقالت إن الشوارع القريبة من منزلها، والتي عادة ما تعج بالناس وحركة المرور، كانت مهجورة، ولحقت أضرار بمبنى جراء القصف، في حين تراكمت القمامة وركام بعض المنزل في أماكن متفرقة.
وفي أيام أخرى شاهدت حشودا أمام أحد المخابز على أمل أن يفتح أبوبه لشراء بعض الخبز منه، مردفة: "لقد كان المشهد سرياليًا تمامًا".
ومع اشتداد حدة القتال، تعرضت المستشفيات والعيادات والمختبرات، التي كانت تعمل بالأساس تحت الضغط، للهجوم بشكل متزايد.
وقالت الأمم المتحدة إن غالبية المرافق الصحية في المدينة أغلقت، و16 في المائة فقط تعمل بشكل طبيعي.
وأوضح اتحاد الصيادلة في السودان أن مرفق الإمدادات الطبية المركزي بالخرطوم، والذي يحتوي على أدوية مهمة لمرض السكري وضغط الدم، قد أغلق أبوابه بعد أن استولت عليه قوات الدعم السريع.
كما ذكر صندوق الأمم المتحدة للسكان أن الرعاية الطبية لـ 219 ألف امرأة حامل في الخرطوم وحدها قد تعطلت، مع "انخفاض الإمدادات بشكل خطير"، ناهيك عن وجود أكثر من 10 آلاف سيدة في حاجة ماسة إلى رعاية التوليد، بما في ذلك الولادة القيصرية.
كما واجه العاملون في المجال الطبي في المدينة عمليات انتقامية، إذ قالت نقابة الأطباء السودانية، يوم الاثنين، إن الجيش اعتقل اثنين من المتطوعين الطبيين كانا يقومان بإجلاء مرضى من مستشفى بالخرطوم، بيد أنه جرى إطلاق سراحهما في وقت لاحق بعد ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وعند نقاط التفتيش التي يديرها مقاتلون شبه عسكريون، أفاد العديد من الأشخاص، والأطباء على وجه الخصوص، بتعرضهم للمضايقة أو فحص هواتفهم الهاتفية لـ"معرفة ولاءاتهم".
وقالت استشارية طب الأطفال، سارة عبد الجليل، في مقابلة هاتفية: "الأطباء لا يدعمون أيًا من الأطراف المتصارعة.. نحن لا نريد هذه الحرب".
وذكرت عبد الجليل، التي تقوم بجمع الأموال وتنسيق الدعم للعاملين الطبيين من بريطانيا، حيث تعيش، أنها تلقت عددا هائلا من طلبات المساعدات من الخرطوم في الأيام القليلة الماضية.
ونبهت إلى أن الأطباء يطلبون من العائلات والمرضى إخلاء المستشفيات بسبب نفاد الأكسجين أو الأدوية أو الوقود لتشغيل الأجهزة الطبية، مردفة: "هذه أوضاع غير إنسانية، وما يحدث أمر قاس جدا".
وبدأ بعض سكان الخرطوم الذين خسروا مصادر رزقهم في الهروب إلى ضواحي المدينة.
فقد فرت آية الفاتح وعائلتها مؤخرًا إلى قرية صغيرة في الضواحي الشمالية للخرطوم بعد أن أصاب الرصاص منزلهم وسقطت أجزاء من سقف منزلهم.
وكانت آية، 33 عامًا، تعمل منظمة غير حكومية متخصصة في مساعدة اللاجئين من الدول الأخرى على الاستقرار في السودان، ولكنها أصبحت هي نازحة بعد أن جرى طردها وعائلتها من منزلهم.
وتخشى آية أن تصل نيران العنف والمعارك إلى الريف الهادئ، مردفة: "لم أتخيل أبداً أنني سأعيش لأرى نفسي في هذا الوضع البائس.. السودان يستحق السلام، ونحن نستحق الأفضل".