تفترش جومانة الأرض تحت أشجار زيتون معمرة، وتعد وجبة ساخنة لعائلتها التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها تبيت داخل خيمة في حقل موحل، شأنها شأن آلاف العائلات التي فرت من مناطق الاشتباك بين قوات النظام والجهاديين في شمال سوريا. تحت سماء ملبدة ووسط حرارة منخفضة، تخلط جومانة (25 عاماً) الأرز مع البرغل، وهي المواد الوحيدة المتوافرة لديها، داخل قدر أشعلت تحته أغصان زيتون مبللة، تسببت في تصاعد دخان أسود كثيف. وتقول الشابة التي تغطي رأسها بوشاح بني لفرانس برس السبت "تركنا منازلنا ولم نحضر شيئاً معنا، لا غازاً ولا خبزاً، وأطفالنا جائعون. تركنا كل شيء هناك". واضطرت جومانة مع زوجها وطفليها و16 فرداً من العائلة إلى الفرار قبل أربعة أيام من قريتها التي يسيطر عليها الجهاديون في ريف مدينة دير حافر في ريف حلب الشرقي، خوفاً من القصف الكثيف الذي تنفذه قوات النظام السوري وحلفاؤها على المنطقة. وبعد رحلة متعبة، وصلت العائلة إلى أطراف قرية الخاروفية الواقعة على بعد 18 كيلومتراً جنوب مدينة منبج، والتي تسيطر عليها فصائل كردية وعربية منضوية في إطار قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من واشنطن. وبدأت قوات النظام السوري بدعم روسي هجوماً في ريف حلب الشرقي منذ منتصف يناير وتمكنت من انتزاع أكثر من تسعين قرية من أيدي الجهاديين، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. ويتخلل الهجوم قصف مدفعي وغارات سورية كثيفة على مناطق سيطرة الجهاديين، ما دفع أكثر من ثلاثين ألف مدني إلى النزوح نحو المناطق المجاورة مع تقدم قوات النظام، بحسب المرصد. وتقول جومانة "كان الدواعش يقصفون والطيران يقصف وأولادنا خائفون كثيراً. بالكاد تمكنا من أن ننقذ أرواحنا". ورغم وصولها إلى مكان آمن، لا تشعر بالأمان في غياب أدنى المقومات الضرورية. وتقول بحزن وهي تنظر إلى الأعلى "السماء ملبدة بالغيوم والطقس بارد. إذا أمطرت ستتفاقم معاناتنا". - استياء وتعب- تجد عشرات العائلات النازحة إلى أطراف قرية الخاروفية نفسها متروكة في العراء وسط ظروف إنسانية ومعيشية صعبة، في غياب كامل لأي مساعدة من المنظمات الإنسانية الدولية. وشاهد مراسل "فرانس برس" أمس السبت متطوعين من جمعيات محلية يوزعون ملابس شتوية على النازحين، فيما لا يملك عدد كبير من العائلات خيماً أو فرشاً أو بطانيات، ويقيمون في العراء تحت الأشجار أو يتشاركون الخيمة ذاتها. ويتشارك طراد المزيد، رجل خمسيني يغطي رأسه بكوفية بيضاء، الخيمة مع عائلة أخرى بعد نزوحه من قرية جب أبيض الواقعة على بعد نحو 45 كيلومتراً من منبج. ويقول لفرانس برس فيما أطفاله يلهون قربه وأرجلهم ملطخة بالوحل "نحن عائلتان تحت هذه الخيمة، وضعنا سيء، ينقصنا مكان نقيم فيه، فهذه الخيمة هي المطبخ والحمام وكل شيء". ويروي الرجل بدوره أنه قرر النزوح بعدما "سكن عناصر داعش بيننا ولم نعد نتحمل"، مع كثافة الغارات والقصف. على بعد أمتار، تجلس أحلام محمد (25 عاماً) التي وصلت قبل يومين من قرية مقتلة سيراً مع فتياتها الثلاث لتقيم داخل خيمة يسكنها أقاربها. تتحدث الشابة من خلف وشاح أسود يلف وجهها من دون أن يخفي ملامح الحزن والانفعال الواضحين أيضاً في نبرة صوتها. وتقول "تركنا منزلنا عند التاسعة مساءً، بعدما اختبأ داعش في منزلنا وطردنا من قريتنا التي حولها إلى منطقة عسكرية". وتضيف "خفنا كثيراً من القصف.. وخرج الناس من القرية بأعداد كبيرة". وتمهد قوات النظام وفق المرصد هجومها على القرى تحت سيطرة الجهاديين بقصف مدفعي وغارات كثيفة، ما يدفع الجهاديين تحت وابل الغطاء الناري إلى الانسحاب تدريجاً من القرى، واحدة تلو أخرى. ونقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" السبت أن "الجيش أعاد الأمن والاستقرار إلى 15 قرية وبلدة في ريف حلب الشمالي الشرقي" بعد طرد الجهاديين منها. - "كابوس" - لم تنته معاناة أحلام مع نزوحها قبل يومين. ورغم نجاتها من الجهاديين، إلا أن القلق يعتريها حيال مصير زوجها الذي بقي في القرية. وتقول بحسرة "لا أعرف مصيره الآن.. إذا كان حياً أقول الحمدلله وإذا كان ميتاً فليرحمه الله"، مضيفة بتردد "لا أعرف ماذا سأفعل الآن". تتنهد أحلام قليلاً قبل أن تتابع "عشنا الحرب، الطائرات والمدفعية والدوشكا تقصف والمدنيون هم الضحايا. نريد فقط الاستقرار والعيش بأمان. أتمنى أحياناً أن يكون كل ما رأيناه حلماً ونستفيق منه". في الطريق من الخاروفية إلى منبج، شاهد مراسل لفرانس برس عشرات العائلات مع أطفالها وحاجياتها على دراجات نارية وحافلات صغيرة. وبدا كثير من النازحين مرهقين ومتعبين، أثناء انتظارهم في طوابير على حواجز مجلس منبج العسكري، تمهيداً لمنحهم الإذن بالتوجه إلى المدينة وريفها. وتؤوي مدينة منبج وريفها بحسب المرصد السوري "عشرات آلاف النازحين" الذين فروا من معارك سابقة في المنطقة، ما يجعل توفير "الاحتياجات الملحة لموجة جديدة من النازحين.. صعبا للغاية". وفي باحة مقر منظمة محلية للإغاثة، تجمع نازحون في انتظار الحصول على مساعدات يوزعها ستة أشخاص بلباس مدني، يضع ثلاثة منهم قبعات عليها العلم الأميركي. ويقول أحدهم بالإنكليزية فيما يتولى مترجم تعريب كلامه "هذه ملابس أطفال، مساعدة من الولايات المتحدة". ويضيف "إنها مساعدة بسيطة، لكن هذا ما نملكه في الوقت الحالي. سنساعد المدنيين كلما سنحت لنا الفرصة، فنحن هنا لخدمة المدنيين في المجال الإنساني أيضاً".