الأراضي المحتلة - عز الدين أبو عيشة

على نغمات الأغاني الوطنية المنطلقة من مكبرات الصوت التي اعتلت الشاحنات، وفي تناغم جميل مع أبواق السيارات، وتصفيق أهالي مدينة أم الفحم، وقرع الطبول ومشاركة كبيرة من سكان المدينة، في أجواء عرس فلسطيني، استقبلت، أم الفحم، الأسير الفلسطيني المحرر محمود عثمان إبراهيم جبارين "55 عاما"، الذي غاب عن شمس المدينة نحو 30 عامًا، قضاها مكبل الحرية بين زنازين سجون الاحتلال الإسرائيلي، خلالها انتقلت والدته إلى رحاب الله، وأبوه أصبح طريح الفراش، بعد أنّ عصف به المرض.

جبارين المنحدر من أم الفحم، المدينة الفلسطينية التي تقع شمال فلسطين التاريخية في منطقة المثلث تبعدُ عن مدينة القدس 120 كم إلى الشمال، غزتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في 20 مايو 1949، وبقي أهلها فيها ولم يهجروها، وتعتبر اليوم ثالث كبرى المدن العربية داخل الخط الأخضر بعد مدينتي الناصرة ورهط من حيث عدد السكان، البالغ 52 ألف نسمة.

الضواحي القديمة والبيوت الأثرية التي عاش بها جبّارين، اشتاقت لذكريات كان فيها يجالس والدته، يتسامر معها، إلى أن فرقهما الاحتلال وعمره وقتها 25 عاما، بتهمة الانتماء إلى فصائل المقاومة والقيام بعمليات عسكرية ضد مواقع إسرائيليّة.

الزيارات المتقطعة لم تكن تعوض حنين الأم لابنها، وتروي ظمأ الأسير من رائحة أمّه، لكن مرضها حال دون ذلك، وتحالف مع الاحتلال، وفرق بينهما من جديد، حتى أصبحت والدته لا تقوى على زيارة السجن والمرار الذي تعانيه أثناء رحلة عذاب الطريق والزيارة.

منعه الاحتلال من إلقاء نظرة الوداع على والدته، التي وافتها المنية وهو قابع في السجن، وأيّ قانون يمنع الأسير من توديع والدته؟ وحرمه من التواصل معها عبر الهاتف في الفترة التي أقعدها المرض عن زيارته.

غابت شمس 30 عاما، واشتاقت شمس الحرية لمحمود، والطرقات وحنينه لأمه أيضًا، فمشى الطريق يبحث عن قبر أمّه، وهناك يرثي ألم الأسر، على حفنات التراب انهارت قواه ولم تفارق الدمعة عينه، ولا حتى الصراخ أحباله الصوتية.

ردد على قبر أمه "شاب الدمع في عيني يما، رحمة الله عليكي يما، انتظرت وطال انتظارها" ومسح عيونه بالكوفية الفلسطينية التي طالما عبّرت عن رمز الصمود، وبحشرجة كانت هي الأقرب لصوته، نادى عليها "ابنك محمود رجع".

الدموع التي انهمرت بدون توقف، والكلمات المؤثرة التي أبكت كل الحضور معه أمام قبر والدته، لم تساند محمود الذي طلب من الجميع قراءة الفاتحة على روح والدته، الذي حرمه الاحتلال من تقبليها للوداع.

الأسير المحرر محمود جبّارين أسره الاحتلال عام 1988، وحكمت المحكمة الإسرائيلية عليه بالسجن المؤبد، وبعد التوجه إلى المحكمة العليا جرى تحديد السجن المؤبد عليه 30 عاما وليس مدى الحياة.

يعد جبارين أحد عمداء الأسرى، وواحد من قائمة الأسرى القدامى والتي تضم 40 أسيرًا وهم الأسرى، قبل اتفاقية أوسلو 1993، ولا يزالون في الأسر، كما أنّه واحدا من 14 أسيرًا من المناطق المحتلة عام 1948 استثنتهم صفقات التبادل وتجاوزتهم الإطلاقات السابقة.

عاد المحرر جبّارين إلى أهله وسط استقبال مهيب، بالهتافات الوطنية والتكبيرات، ورفعوه على الأكتاف وساروا به وهو يرفع شارة النصر، يتفقد بعينيه مدينته، وكأنه يعود بالذاكرة لما قبل وقوعه في قبضة الاحتلال.

الاحتفالات هذه جاءت بتنظيم من لجنة الحريات في الأراضي المحتلة، التي شكلت لجنة مشتركة من الحريات شعبية أم الفحم، وعائلة الأسير، للإشراف على تنظيم فعاليات استقبال الأسير احتفاء بحريته، وأيّ شيء أغلى من الحرية.

أما زوايا بيت جبّارين التي بكته كثيرًا وهو في الزنازين، أوّل ما وصلها، انحنى على قدم والده قبلها، على خلفية الزغاريد التي انطلقت من نساء الحارة وأقاربه، احتفالا بعودته، ثمّ قبّل رأس والده طريح الفراش إثر وعكة صحية ألمت به، على إثرها لا يقوى على الوقوف من سريره.

وبصوته الممزوج بفرحة لقاء والده، مع غصة قلبه والحزن، ومع دموع عينيه بعمق المشاعر، سواء كانت فرحا أم حزنًا، قال لوالده: "أبوي انت، هاد أبوي، لا تعيط ... "ما تبكي" بلهجته العامية الفلسطينية، قبل أن يهتز جسمه مرات ومرات.