بعد أن لعبت إيران على وتر "نصرة المستضعفين والمهمشين والمنسيين"، في حوض النيل ودول البحيرات والقرن الإفريقي، وعزفت على نغمة الطائفية في لبنان والعراق واليمن وسورية، وسوقت لتحرير فلسطين، بدأ تمددها بشمال إفريقيا كخطوة تالية لسياستها الخارجية ضمن استراتيجية كبرى خططت لها منذ سنوات لتبقى القوة المسيطرة على المنطقة.
وتعد الدول المغاربية الثلاث تونس والجزائر والمغرب بوابة أمام إيران لإتمام خطتها في التوسع الاقتصادي والامتداد السياسي والاستقطاب المذهبي، ولكن وفق استراتيجيات جديدة بعد أن انكشف الغطاء الصفوي والطائفي، ولم يعد ينطلي على شعوب الدول المغاربية التي ظلت طويلا بعيدة عن فكرة "تصدير الثورة الخمينية" وبمنأى عن تلقفها، وهذه الاستراتيجية اتضحت في 2014، بعد إقرار علي خامنئي "بالدور و التأثير الحاسم للثقافة" في خطاب ألقاه بمناسبة عيد النيروز (السنة الإيرانية الجديدة) مارس 2014 الذي كان شعاره "الاقتصاد والثقافة بعزيمة وطنية وإدارة جهادية"، على اعتبار أن الثقافة عابرة للحدود الجغرافية وهي من أهم الأسلحة التي تعتمدها القوى في العالم لغزو الشعوب، وأدلجتها.
مراكز ثقافية مشبوهة..
يرى المتابعون للشأن الجزائري أن السفارة الإيرانية في الجزائر تنشط بشكل حثيث ومستمر، وما فتئت تطالب السلطات هناك بتسهيلات لفتح مراكز ثقافية في عدد من المدن الكبرى، كالعاصمة الجزائر ووهران وسطيف وباتنة، وتعمل على أكثر من واجهة من خلال لقاءات مع فنانين ومثقفين، وتأسيس جمعيات مدنية وثقافية تتبنى الفكر الطائفي وتروج له تحت غطاء ثقافي، قبل أن تنكشف الحقيقة في رسالة مقتدى الصدر إلى شيعة الجزائر دعاهم فيها إلى عدم التقوقع والخوف من الثلة الضالة (في إشارة إلى السلفيين). وقال إن "شيعة الجزائر هم فئة مظلومة، وعليها ألا تخضع للمتشددين والتكفيريين".
وأصدر السفارة العراقية بالجزائر بيانا جاء فيه، بحسب ما نقلته وسائل إعلامية: "تعلن سفارة جمهورية العراق في الجزائر للأشقاء الجزائريين من الشيعة أو الراغبين في التشيع عن إمكانية التقدم لغرض الحصول على سمة الدخول إلى الأراضي العراقية لأغراض الزيارات الدينية (مزارات الشيعة في النجف وكربلاء)، وقد فتحت السفارة العراقية في الجزائر بوابة إلكترونية ومكتبا خاصين بمنح تأشيرات سفر لفائدة الجزائريين الراغبين في القيام بزيارات دينية إلى العراق، قبل أن تسارع إلى سحب البيان نتيجة الاستنكار الكبير الذي واجهه بيان السفارة شعبيا ورسميا.
وفي المغرب نشطت مشاركات دور النشر والشخصيات الفكرية الإيرانية وراجت الكتب ذات المرجعية الشيعية في المعرض السنوي للكتاب بالرباط، إضافة إلى تنظيم أسبوع للترويج للسينما الإيرانية في المغرب، وإقامة معارض للوحات الفنية والجمالية القرآنية. وكشفت جريدة الصباح المغربية اليومية في عددها الصادر يوم الأربعاء 29 مارس 2017م، أن النشاط الإيراني في المغرب يهدد استقرار البلاد فى الوقت الراهن ومستقبلا، وأن المستقطبين يعملون وفق أجندات إيرانية سياسيا وعقائديا.
وأما في تونس فالسفارة الإيرانية أقامت شبكة من العلاقات الواسعة مع شبكات المجتمع المدني من محامين وإعلاميين وجامعيين، فضلا عن مكونات الطبقة السياسية، ودأبت على إقامة لقاءات وحوارات، فضلا عن استقدام وفود تونسية لزيارة طهران ولقاء المسؤولين الإيرانيين.
ومن منظور إيراني كانت تونس -حسب تصريح سفير إيران السابق بيماني جبلي تمثل وجهة سياحية تاريخية تراثية وحتى دينية بما لها من مبان تاريخية، حيث أمضت تونس مع إيران مجموعة اتفاقيات لتطوير العلاقات في مجال السياحة والصناعات التقليدية (ديسمبر 2015) خلال اجتماع الدورة الخامسة للجنة المشتركة التونسية-الإيرانية الذي حضره مسعود سلطاني نائب رئيس الجمهورية الإسلامية شخصيا رفقة ممثلي قطاع السياحة في بلاده. وتضمن برنامج التعاون بين البلدين إقامة مشاريع استثمارية وتسهيل الحركة السياحية ووضع برامج سياحية مشتركة وتبادل الخبرات والمشاركة في التظاهرات والمعارض هذا مع العلم أن تونس استقطبت العام 2015 حسب إحصائيات رسمية زهاء 1500 سائح إيراني مقابل 5 آلاف العام 2010.
وسقط القناع..
كان المغرب أول الدول المغاربية التي تنبهت إلى التغلغل الإيراني ولجأ خلال سنوات ماضية إلى قطع علاقته الدبلوماسية مع إيران احتجاجا على تنامي النشاط الطائفي، وقامت السلطات المغربية بحملات مراقبة لمختلف المكتبات وصادرت الكتب التي لها علاقة بكل ما هو مذهبي مقيت. وحذرت تقارير أمنية مغربية من تغلغل الاستخبارات الشيعية فى الأوساط الشعبية، وخطورة النفوذ الإيراني بالمغرب.
وفي الجزائر رفعت احتجاجات على أنشطة الملحق الثقافي في السفارة الإيرانية وكان شعار أطردوا "الموسوي"، ثم عقبها رفض شعبي لزيارة الرئيس روحاني، والتي ألغيت بسبب الضغوط الشعبية الرافضة لزيارته. وعلى هذا الأساس دشن عدد من الجزائريين حملات لطرد الدبلوماسى أمير الموسوي، الذي اشتهر بإتقانه التخطيط لحملات التشييع وكانت له أدوار مشابهة فى عدد من الدول ومنها السودان.
أما بالنسبة إلى تونس فقد شنت عناصر من الطبقة السياسية والفكرية حملة ضد التعاون الثنائي وانفتاح تونس نحو إيران خوفاً من امتداد "الفكر الصفوي"، وقد دعت بعض الأحزاب السياسية إلى مساءلة وزيرة السياحة ورئيس الحكومة تحت قبة البرلمان للكشف عن خفايا اتفاق التعاون السياحي بين تونس وإيران، مع تزايد المخاوف من الامتداد المذهبي وخروج تجمعات دينية مذهبية من السرية إلى العلنية بعد أن نص الدستور التونسي الجديد 2014 على أهمية احترام الأقليات الدينية.
ويرى الملاحظون السياسيون أن إيران بقدر ما استطاعت تحقيق بعض الإنجازات في القارة الإفريقية، انحسر تمددها بدول شمال أفريقيا، لكنهم حذروا من أن الخطر الإيراني يبقى قائما، وهو ما يضع الدول العربية مجتمعة أمام مسؤولياتها التاريخية في صياغة استراتيجية واحدة لحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية وترسيخ العمق الثقافي العربي في دول شمال أفريقيا للحفاظ على المصالح الاقتصادية والجيو- استراتيجية العربية.