سبق
في التاسع من يونيو عام 2015 كان الصحفي اليمني هيثم الشهاب يحتفل بذكرى يوم ميلاده الـ24 مع أصدقائه، ويتلقى التهاني عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وهو اليوم نفسه الذي كان يحتفل فيه الصحفيون اليمنيون بيوم الصحافة اليمنية، إلا أن رجال الانقلاب الحوثي لم يتركوا ذلك يمر مرور الكرام دون أن يحولوا ذكرى ميلاده إلى ذكرى اعتقاله، وامتهان كرامته، وكابوس يعيش معه العمر كله، ويصبح يومًا حزينًا ليس فقط للصحافة اليمنية ولكن لجميع أحرار اليمن.
فقد سلب الحوثيون اليمنيين حريتهم، وراحة بالهم، كما سلبوهم استقرارهم، وحاضرهم، وسرقوا أحلامهم، وربما مستقبلهم، وبعد أن انقلبوا على الرئيس والحكومة الشرعية لم يكن أمامهم إلا قتل واعتقال الشباب اليمني الرافض لعدوانهم الآثم، والمصوِّر لانتهاكاتهم في حق الشعب اليمني والعاصمة صنعاء لإسكات آخر الأصوات اليمنية الحرة، بعد أن نجحوا في تجنيد المغيبين ومَن خدعوهم بأكاذيبهم ووعودهم المعسولة.
والتقت "سبق" الصحفي اليمني هيثم الشهاب؛ ليحدثنا عن الانتهاكات والتعذيب وأصناف الإهانة والويل الذي لاقاه في سجون الحوثي لمدة خمس سنوات ونيف، جرده فيها الحوثي من حريته، وانتهك كرامته، بعد أن تجردت الميليشيا من إنسانيتها، وتخلت عن الأعراف والمواثيق الدولية والإنسانية.
ليلة القبض على الأحرار
في ليلة من ليالي صنعاء بعد الانقلاب الحوثي الغاشم، في التاسع من يونيو 2015 تحديدًا، كان يجلس "الشهاب" برفقة زملائه الصحفيين في أحد فنادق صنعاء، يوثقون ويكتبون للصحف والمواقع المحلية التي يعملون بها ما رأوه ورصدوه من انتهاكات تمارسها جماعة الحوثي منذ سيطرتها على العاصمة في 21 سبتمبر 2014؛ ليفاجَؤوا بهجوم رجال مدججين بالأسلحة، أتوا لهم خصيصًا؛ ليقتادوهم من بين النزلاء والزوار إلى غياهب السجن وسط دهشة الجميع.
كان الحوثيون في تلك الفترة لا يبحثون عن المقاتلين بل عن الصحفيين، كانوا يعلمون قيمة هؤلاء الشباب، وما يستطيعون فعله بقلمهم؛ فقد أخبرهم سفاحهم الأكبر عبدالملك الحوثي في خطابه في 21 سبتمبر 2015 بأن الصحفيين أخطر من المقاتل في الجبهة؛ لما لهم من تأثير على الرأي العام. وهنا هبَّ رجال الانقلاب للبحث عن بيوت الصحفيين، واقتيادهم للسجون؛ حتى ينقطع لسان الحق؛ فلا نجد من يقص علينا فظائع الانقلاب، وفضائحه؛ إذ اعتبروا أخبارهم عن واقع البلاد، ورصدهم الممارسات الحوثية، كبيرة من الكبائر، تستهدف الأمن، وتزعزع الاستقرار، وتُضعف من معنويات أفراد اللجان الشعبية التابعة لهم.
يقول "الشهاب": "وجدنا أنفسنا أنا و9 من زملائي الصحفيين بين أيدي المسلحين الذين اقتحموا الغرفة بالأسلحة (كلاشينكوف ورشاشات وآر بي جي وصواريخ لو). شعرنا بالرعب من طريقة الاقتحام؛ فقد كانوا خمسة يرتدون زي الحرس الجمهوري، وآخرون يرتدون زيًّا مدنيًّا. وكانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. تم تفتيشنا، وأخذ كل ما بحوزتنا من أوراق، وبطاقات، وأجهزة محمولة، ومبالغ مالية. أخذونا على ثلاثة أطقم عسكرية إلى سجن الحصبة، ووضعونا في زنازين ضيقة مظلمة (غير مهواة) مع أربعة أشخاص، كانت تهمهم جنائية".
فجأة وجد الشاب اليمني نفسه في ذكرى يوم ميلاده في أحد السجون بدون تهمة تُذكر إلا أنه قرر أن يبوح بالحقيقة، ويعرّي الحوثي أمام نفسه وأمام الجميع. ولمدة نحو 3 سنوات كان من ضمن المختفين قسرًا؛ لا يعرف أحد عن مكانه، وما إذا كان حيًّا أم ميتًّا.
ويضيف: "نقلونا في عصر اليوم التالي إلى سجن البحث الجنائي، وذلك بعد أن أخذوا منا معلومات شخصية، وكلمات، ورموز سر فتح الهاتف المحمول، واللابتوب".
تحقيقات على طريقة الأفلام
وهنا بدأت معاناة جديدة في سجن البحث الجنائي؛ فقد بدأ التحقيق الذي أدارته الميليشيات على طريقة أفلام العصابات الأمريكية؛ فكل أنواع الضرب والإهانة والسباب ذاقها الشاب اليمني على مدار أكثر من 3 ساعات، وكل وسائل وأدوات الضرب كانت حاضرة من عصا وهراوات وكرابيج، ولم يتركوه وإلا هو في حالة إعياء تامة، وكان يدور المحقق الحوثي حول ضحيته، ويضع المسدس على رأسه مهددًا بتفجيره، فإن لم يقتله برصاصة قتله نفسيًّا، على حد تعبير "الشهاب".
ومع فشل محاولات رجال الحوثي المتتالية في الحصول على معلومات من المعتقلين أو أي وشاية بزملائهم الآخرين، كان يجن جنونهم، فيضربونهم ضربًا مبرحًا، وينكلون بهم، ولا يتركونهم إلا وهم والجثث الهامدة سواء.
متى يأتي دوري؟
وينقل الشاب القادم من محافظة تعز معاناته مع طرق التعذيب المختلفة التي انتهجها رجال الانقلاب بقوله: "كان الحوثيون شغلهم الشاغل نحن المساجين، لا يعجبهم أن نعيش أوضاعنا الطبيعية داخل زنازينهم المغلقة؛ فبمجرد أن يسمعك تضحك يأتي إليك ويحوّل حياتك إلى جحيم بعد سيل جارف من الشتائم، وإذا كنت هادئًا مطمئنًّا يأتي بشخص أمام بوابة زنزانتك ويقوم بتعذيبه؛ ليتسبب في حرمانك من النوم، ويعيِّشك طوال ليلتك في قهر وترقب متى يأتي دورك!".
ويضيف: "تحولت آثار الخوف والألم الناتجة من التعذيب البدني إلى أضرار نفسية طويلة الأجل؛ فلا تزال النفسيات مرهقة ومتعبة، حتى وأنا أتذكر الآن تلك الأحداث أشعر بتعب في التفكير، يعجز عن إيجاد الكلمات نتيجة حالة التغييب الطويلة التي مررتُ بها نتيجة منعنا من دخول الكتب، وتوعدهم لنا بالخروج أميّين، حتى أغلفة الأدوية كانوا ينتزعونها حتى لا نقرأ أي شيء، ويظل العقل مجمدًا ومشغولاً بما ينتظره من ويلات وتنكيل".
ويردف: "حالة العزلة داخل الزنازين الانفرادية تعد من أشد أنواع التعذيب النفسي في سجون الأمن السياسي؛ إذ يبقيك مشغول البال في انتظار موعد دخول دورة المياه، وإذا جاء دورك ثلاث مرات يوميًّا تخرج لمدة دقيقة واحدة، وإذا تأخرت اقتحم عليك الحمام ودخل عليك ليمطرك باللكمات، ويبرحك ضربًا، ويخرجك إلى ساحة السجن، ويستخدم كل وسائل العبث والتعذيب بصب الماء البارد فوق رأسك في الشتاء القارس، وإجبارك على الانبطاح أرضًا والتقلب في الأرض الأسمنتية الخشنة، ثم تكتمل الإهانة بالركل بالأقدام، وبعصي المكانس في أي مكان في الجسد، متعمدًا ركل الأماكن الحساسة".
ويتابع "الشهاب" حديثه والألم يعتصره مع تذكُّره مأساته ومأساة كل يمني حر: "كان الضوء تعذيبًا؛ إذ كنا في غرف الأمن السياسي نعاني اللمبات ذات الضوء الأصفر السقيم؛ لأنها تزعج العيون، وترهق النظر، ويتعمدون عدم إطفائها طوال الوقت؛ فلا نستطيع النوم من شدتها، كما أن الرائحة في أغلب محابسنا كانت خانقة؛ إذ إنه أكثر من مرة كانت قنوات الصرف الصحي تفيض وتطفح علينا وعلى أدواتنا".
التعذيب النفسي
كما كان يلعب الحوثيون على وتر النفسيات؛ إذ يشيع خبر عن طريق المستلمين في السجن بأن فلانًا على وشك الخروج من المعتقل بعد أن أغلق ملفه؛ ليظل على أعصابه ينتظر لحظة الخلاص التي لا تأتي.
كان يصاب الانقلابيون في المعتقل بالجنون والحنق عندما ينمو إلى علمهم أن قضية الصحفيين والمعتقلين الأبرياء قد أخذت بُعدًا دوليًّا؛ فما كان منهم إلا زيادة وتيرة التعذيب والإهانة ضدهم، وضد أهلهم.. إذ يحكي "الشهاب" عن والدته التي تعرضت للاختطاف والضرب والجذب من شعرها من مدير السجن؛ بسبب تسريبها خبرًا عن ابنها وما يتعرض له من إهانات وضرب مبرح أمامها أثناء الزيارات القليلة.
ولم تكن أحوال الزنازين بأفضل حالاً؛ فقد كانت خانقة وضيقة، (كبسها) الحوثي بالمعتقلين؛ فالزنزانة التي تسع لأربعة أشخاص على الأكثر كانت تمتلئ بأكثر من عشرة، كما كان الطعام والماء على المستوى نفسه من الحضيض الذي عاشه المعتقلون، بحسب تعبير الصحفي اليمني الشاب؛ وهو ما تسبب له في الكثير من الأمراض والأسقام التي لا يزال يعالَج منها حتى الوقت الراهن، ومنها مرض السكري بالرغم من صِغَر سنه. فيما كانت ملابس المعتقل قطعة واحدة، لا تتغير ولا تتبدل، وعند غسلها يضطر المعتقلون إلى اقتطاع جزء من البطاطين التي أدخلها أهاليهم بصعوبة إلى المعتقل، ويتلحفون بها ليداروا بها سوءاتهم حتى تجف ملابس السجن.
محاكمات هزلية وقضاة مهرجون
وأشار "الشهاب" إلى هزلية المحاكمات التي جرت بهم، وإلى قضاتها المهرجين الذين رفضوا دخول محاميهم؛ فالقاضي رمز العدالة والمساواة كان يحرّض المعتقلين أثناء الجلسات على حمل السلاح، والانضمام للحوثيين في تلاعبهم بمقدرات البلد، وليلاً كان يخطب القاضي نفسه في الأهالي يطالبهم بمساعدة الحوثيين، والانضمام إلى قواتهم.. في الوقت الذي يعترف فيه قادة الحوثي ضمنيًّا للمعتقلين بأن المحاكمات لا قيمة لها؛ فهم من يحددون من يبقى، ومن يخرج، دون النظر للأحكام القضائية المسيَّسة في الأساس.
"لماذا لا تقتلوننا وتريحونا؟".. يسأل "الشهاب" جلاده بعد أن فقد الأمل في الحياة، وطال أمد الظلم، فيرد عليه بنذالة: "نريدكم أحياء، فطيران التحالف لا يمكنه قصف السجن طالما أن فيه معتقلين أبرياء"!
وفي ظل سلبية المنظمات الأممية والدولية، كالأمم المتحدة والصليب الأحمر، كان "الشهاب" يصارع الأفكار السوداوية التي كانت تخالجه بالأمل في غد أفضل..
وبعد نحو 5 سنوات و3 أشهر تحققت أخيرًا أماني الشاب اليمني بعد أن قرر الحوثي أخيرًا تحرير رهائنه ضمن صفقة تبادل أسرى مع الحكومة الشرعية.
خرج "الشهاب" أخيرًا يتنسم نسائم الحرية، في حين أوجاع وآلام التجربة المريرة، وما تركته من أسقام نفسية وجسدية وعضوية، لا تبارحه، وتطارده ليلاً نهارًا في منفاه الذي تتحفظ "سبق" بذكره؛ حتى لا يطول بطش الانقلابيين الشاب اليمني ورفاقه ممن كابدوا الألم والمعاناة في جحيم الحوثي.
في التاسع من يونيو عام 2015 كان الصحفي اليمني هيثم الشهاب يحتفل بذكرى يوم ميلاده الـ24 مع أصدقائه، ويتلقى التهاني عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وهو اليوم نفسه الذي كان يحتفل فيه الصحفيون اليمنيون بيوم الصحافة اليمنية، إلا أن رجال الانقلاب الحوثي لم يتركوا ذلك يمر مرور الكرام دون أن يحولوا ذكرى ميلاده إلى ذكرى اعتقاله، وامتهان كرامته، وكابوس يعيش معه العمر كله، ويصبح يومًا حزينًا ليس فقط للصحافة اليمنية ولكن لجميع أحرار اليمن.
فقد سلب الحوثيون اليمنيين حريتهم، وراحة بالهم، كما سلبوهم استقرارهم، وحاضرهم، وسرقوا أحلامهم، وربما مستقبلهم، وبعد أن انقلبوا على الرئيس والحكومة الشرعية لم يكن أمامهم إلا قتل واعتقال الشباب اليمني الرافض لعدوانهم الآثم، والمصوِّر لانتهاكاتهم في حق الشعب اليمني والعاصمة صنعاء لإسكات آخر الأصوات اليمنية الحرة، بعد أن نجحوا في تجنيد المغيبين ومَن خدعوهم بأكاذيبهم ووعودهم المعسولة.
والتقت "سبق" الصحفي اليمني هيثم الشهاب؛ ليحدثنا عن الانتهاكات والتعذيب وأصناف الإهانة والويل الذي لاقاه في سجون الحوثي لمدة خمس سنوات ونيف، جرده فيها الحوثي من حريته، وانتهك كرامته، بعد أن تجردت الميليشيا من إنسانيتها، وتخلت عن الأعراف والمواثيق الدولية والإنسانية.
ليلة القبض على الأحرار
في ليلة من ليالي صنعاء بعد الانقلاب الحوثي الغاشم، في التاسع من يونيو 2015 تحديدًا، كان يجلس "الشهاب" برفقة زملائه الصحفيين في أحد فنادق صنعاء، يوثقون ويكتبون للصحف والمواقع المحلية التي يعملون بها ما رأوه ورصدوه من انتهاكات تمارسها جماعة الحوثي منذ سيطرتها على العاصمة في 21 سبتمبر 2014؛ ليفاجَؤوا بهجوم رجال مدججين بالأسلحة، أتوا لهم خصيصًا؛ ليقتادوهم من بين النزلاء والزوار إلى غياهب السجن وسط دهشة الجميع.
كان الحوثيون في تلك الفترة لا يبحثون عن المقاتلين بل عن الصحفيين، كانوا يعلمون قيمة هؤلاء الشباب، وما يستطيعون فعله بقلمهم؛ فقد أخبرهم سفاحهم الأكبر عبدالملك الحوثي في خطابه في 21 سبتمبر 2015 بأن الصحفيين أخطر من المقاتل في الجبهة؛ لما لهم من تأثير على الرأي العام. وهنا هبَّ رجال الانقلاب للبحث عن بيوت الصحفيين، واقتيادهم للسجون؛ حتى ينقطع لسان الحق؛ فلا نجد من يقص علينا فظائع الانقلاب، وفضائحه؛ إذ اعتبروا أخبارهم عن واقع البلاد، ورصدهم الممارسات الحوثية، كبيرة من الكبائر، تستهدف الأمن، وتزعزع الاستقرار، وتُضعف من معنويات أفراد اللجان الشعبية التابعة لهم.
يقول "الشهاب": "وجدنا أنفسنا أنا و9 من زملائي الصحفيين بين أيدي المسلحين الذين اقتحموا الغرفة بالأسلحة (كلاشينكوف ورشاشات وآر بي جي وصواريخ لو). شعرنا بالرعب من طريقة الاقتحام؛ فقد كانوا خمسة يرتدون زي الحرس الجمهوري، وآخرون يرتدون زيًّا مدنيًّا. وكانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. تم تفتيشنا، وأخذ كل ما بحوزتنا من أوراق، وبطاقات، وأجهزة محمولة، ومبالغ مالية. أخذونا على ثلاثة أطقم عسكرية إلى سجن الحصبة، ووضعونا في زنازين ضيقة مظلمة (غير مهواة) مع أربعة أشخاص، كانت تهمهم جنائية".
فجأة وجد الشاب اليمني نفسه في ذكرى يوم ميلاده في أحد السجون بدون تهمة تُذكر إلا أنه قرر أن يبوح بالحقيقة، ويعرّي الحوثي أمام نفسه وأمام الجميع. ولمدة نحو 3 سنوات كان من ضمن المختفين قسرًا؛ لا يعرف أحد عن مكانه، وما إذا كان حيًّا أم ميتًّا.
ويضيف: "نقلونا في عصر اليوم التالي إلى سجن البحث الجنائي، وذلك بعد أن أخذوا منا معلومات شخصية، وكلمات، ورموز سر فتح الهاتف المحمول، واللابتوب".
تحقيقات على طريقة الأفلام
وهنا بدأت معاناة جديدة في سجن البحث الجنائي؛ فقد بدأ التحقيق الذي أدارته الميليشيات على طريقة أفلام العصابات الأمريكية؛ فكل أنواع الضرب والإهانة والسباب ذاقها الشاب اليمني على مدار أكثر من 3 ساعات، وكل وسائل وأدوات الضرب كانت حاضرة من عصا وهراوات وكرابيج، ولم يتركوه وإلا هو في حالة إعياء تامة، وكان يدور المحقق الحوثي حول ضحيته، ويضع المسدس على رأسه مهددًا بتفجيره، فإن لم يقتله برصاصة قتله نفسيًّا، على حد تعبير "الشهاب".
ومع فشل محاولات رجال الحوثي المتتالية في الحصول على معلومات من المعتقلين أو أي وشاية بزملائهم الآخرين، كان يجن جنونهم، فيضربونهم ضربًا مبرحًا، وينكلون بهم، ولا يتركونهم إلا وهم والجثث الهامدة سواء.
متى يأتي دوري؟
وينقل الشاب القادم من محافظة تعز معاناته مع طرق التعذيب المختلفة التي انتهجها رجال الانقلاب بقوله: "كان الحوثيون شغلهم الشاغل نحن المساجين، لا يعجبهم أن نعيش أوضاعنا الطبيعية داخل زنازينهم المغلقة؛ فبمجرد أن يسمعك تضحك يأتي إليك ويحوّل حياتك إلى جحيم بعد سيل جارف من الشتائم، وإذا كنت هادئًا مطمئنًّا يأتي بشخص أمام بوابة زنزانتك ويقوم بتعذيبه؛ ليتسبب في حرمانك من النوم، ويعيِّشك طوال ليلتك في قهر وترقب متى يأتي دورك!".
ويضيف: "تحولت آثار الخوف والألم الناتجة من التعذيب البدني إلى أضرار نفسية طويلة الأجل؛ فلا تزال النفسيات مرهقة ومتعبة، حتى وأنا أتذكر الآن تلك الأحداث أشعر بتعب في التفكير، يعجز عن إيجاد الكلمات نتيجة حالة التغييب الطويلة التي مررتُ بها نتيجة منعنا من دخول الكتب، وتوعدهم لنا بالخروج أميّين، حتى أغلفة الأدوية كانوا ينتزعونها حتى لا نقرأ أي شيء، ويظل العقل مجمدًا ومشغولاً بما ينتظره من ويلات وتنكيل".
ويردف: "حالة العزلة داخل الزنازين الانفرادية تعد من أشد أنواع التعذيب النفسي في سجون الأمن السياسي؛ إذ يبقيك مشغول البال في انتظار موعد دخول دورة المياه، وإذا جاء دورك ثلاث مرات يوميًّا تخرج لمدة دقيقة واحدة، وإذا تأخرت اقتحم عليك الحمام ودخل عليك ليمطرك باللكمات، ويبرحك ضربًا، ويخرجك إلى ساحة السجن، ويستخدم كل وسائل العبث والتعذيب بصب الماء البارد فوق رأسك في الشتاء القارس، وإجبارك على الانبطاح أرضًا والتقلب في الأرض الأسمنتية الخشنة، ثم تكتمل الإهانة بالركل بالأقدام، وبعصي المكانس في أي مكان في الجسد، متعمدًا ركل الأماكن الحساسة".
ويتابع "الشهاب" حديثه والألم يعتصره مع تذكُّره مأساته ومأساة كل يمني حر: "كان الضوء تعذيبًا؛ إذ كنا في غرف الأمن السياسي نعاني اللمبات ذات الضوء الأصفر السقيم؛ لأنها تزعج العيون، وترهق النظر، ويتعمدون عدم إطفائها طوال الوقت؛ فلا نستطيع النوم من شدتها، كما أن الرائحة في أغلب محابسنا كانت خانقة؛ إذ إنه أكثر من مرة كانت قنوات الصرف الصحي تفيض وتطفح علينا وعلى أدواتنا".
التعذيب النفسي
كما كان يلعب الحوثيون على وتر النفسيات؛ إذ يشيع خبر عن طريق المستلمين في السجن بأن فلانًا على وشك الخروج من المعتقل بعد أن أغلق ملفه؛ ليظل على أعصابه ينتظر لحظة الخلاص التي لا تأتي.
كان يصاب الانقلابيون في المعتقل بالجنون والحنق عندما ينمو إلى علمهم أن قضية الصحفيين والمعتقلين الأبرياء قد أخذت بُعدًا دوليًّا؛ فما كان منهم إلا زيادة وتيرة التعذيب والإهانة ضدهم، وضد أهلهم.. إذ يحكي "الشهاب" عن والدته التي تعرضت للاختطاف والضرب والجذب من شعرها من مدير السجن؛ بسبب تسريبها خبرًا عن ابنها وما يتعرض له من إهانات وضرب مبرح أمامها أثناء الزيارات القليلة.
ولم تكن أحوال الزنازين بأفضل حالاً؛ فقد كانت خانقة وضيقة، (كبسها) الحوثي بالمعتقلين؛ فالزنزانة التي تسع لأربعة أشخاص على الأكثر كانت تمتلئ بأكثر من عشرة، كما كان الطعام والماء على المستوى نفسه من الحضيض الذي عاشه المعتقلون، بحسب تعبير الصحفي اليمني الشاب؛ وهو ما تسبب له في الكثير من الأمراض والأسقام التي لا يزال يعالَج منها حتى الوقت الراهن، ومنها مرض السكري بالرغم من صِغَر سنه. فيما كانت ملابس المعتقل قطعة واحدة، لا تتغير ولا تتبدل، وعند غسلها يضطر المعتقلون إلى اقتطاع جزء من البطاطين التي أدخلها أهاليهم بصعوبة إلى المعتقل، ويتلحفون بها ليداروا بها سوءاتهم حتى تجف ملابس السجن.
محاكمات هزلية وقضاة مهرجون
وأشار "الشهاب" إلى هزلية المحاكمات التي جرت بهم، وإلى قضاتها المهرجين الذين رفضوا دخول محاميهم؛ فالقاضي رمز العدالة والمساواة كان يحرّض المعتقلين أثناء الجلسات على حمل السلاح، والانضمام للحوثيين في تلاعبهم بمقدرات البلد، وليلاً كان يخطب القاضي نفسه في الأهالي يطالبهم بمساعدة الحوثيين، والانضمام إلى قواتهم.. في الوقت الذي يعترف فيه قادة الحوثي ضمنيًّا للمعتقلين بأن المحاكمات لا قيمة لها؛ فهم من يحددون من يبقى، ومن يخرج، دون النظر للأحكام القضائية المسيَّسة في الأساس.
"لماذا لا تقتلوننا وتريحونا؟".. يسأل "الشهاب" جلاده بعد أن فقد الأمل في الحياة، وطال أمد الظلم، فيرد عليه بنذالة: "نريدكم أحياء، فطيران التحالف لا يمكنه قصف السجن طالما أن فيه معتقلين أبرياء"!
وفي ظل سلبية المنظمات الأممية والدولية، كالأمم المتحدة والصليب الأحمر، كان "الشهاب" يصارع الأفكار السوداوية التي كانت تخالجه بالأمل في غد أفضل..
وبعد نحو 5 سنوات و3 أشهر تحققت أخيرًا أماني الشاب اليمني بعد أن قرر الحوثي أخيرًا تحرير رهائنه ضمن صفقة تبادل أسرى مع الحكومة الشرعية.
خرج "الشهاب" أخيرًا يتنسم نسائم الحرية، في حين أوجاع وآلام التجربة المريرة، وما تركته من أسقام نفسية وجسدية وعضوية، لا تبارحه، وتطارده ليلاً نهارًا في منفاه الذي تتحفظ "سبق" بذكره؛ حتى لا يطول بطش الانقلابيين الشاب اليمني ورفاقه ممن كابدوا الألم والمعاناة في جحيم الحوثي.