خذلهم شارع محبط، وفقدوا دعم الخارج فباتوا عالقين بين أسوأ السيناريوهات، قبل أن ينتقلوا إلى خطة بديلة تقوم على الانحناء حتى مرور العاصفة.
فبعد 24 ساعة من فشلهم في التعبئة ورفض قواعدهم تلبية الدعوة للنزول إلى محيط البرلمان، غيّر إخوان تونس خطابهم بشكل جذري، وأصدروا بيانا غابت فيه لهجة الاستقواء المعتادة.
وفي بيان صدر الثلاثاء، دعت حركة النهضة الإخوانية إلى "تكثيف المشاورات حول المستجدات الأخيرة"، في إشارة إلى القرارات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيد بتجميد عمل البرلمان، وتعليق الحصانة عن نوابه، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي.
دعوة إلى الحوار تختزل حالة الصدمة التي يعيشها إخوان تونس منذ إعلان الإجراءات الاستثنائية، وعزوف أنصارهم عن النزول إلى الشوارع في محاولة لمنح انطباع بقدرتهم على الحشد ما قد يجبر سعيد عن التراجع.
انهارت آمال تنظيم يبدو مرتبكا على وقع تتالي الحقائق الصادمة: صفعة سياسية وخذلان شعبي وتفهم غربي لموقف سعيد يفاقم وضعا لم تستشرفه أكثر توقعات الإخوان تشاؤما.
وبدا واضحا أن حركة النهضة تضرب نفسها ببيانها الذي حذرت فيه من "الفتنة" و"الاحتراب الأهلي"، مع أنها الطرف السياسي الوحيد الذي دعا أنصاره للنزول إلى الشوارع في وقت دعت فيه معظم الأطياف السياسية الأخرى إلى التعقل وعدم جر البلاد نحو صدامات بين التونسيين قد تقود نحو نهاية كارثية.
فشل التحشيد
فشل إخوان تونس، الإثنين، في تغيير موازين القوى من خلال الشارع؛ الورقة التي عولوا عليها لإجبار سعيد على التراجع، في خطة بدت شبيهة بما قام به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال مسرحية الانقلاب في 2016، حين دعا أنصاره للنزول إلى الشوارع.
على ذات الدرب، سار زعيم إخوان تونس بعد أن سارع فجرا بالذهاب إلى مقر البرلمان ويبقى رابضا ببوابته ممنوعا من الدخول على أمل أن يلتحق به أنصاره، لكن أمله تحطم على قارعة إحباط شعبي مخيف ترجم نضوب رصيده.
والاستقواء بالشارع ليس بالأمر الجديد على الحركة الإخوانية، فهذه الدعوة كانت الثالثة منذ 2013، تحت نفس العنوان "الدفاع عن الشرعية"؛ الشعار الزائف الذي استهلكه التنظيم حد بات بلا وقع حتى على قواعد الحركة نفسها.
حضر الغنوشي وبعض نواب التنظيم وحلفائه فيما غاب الأنصار، ليقع الحشد الصغير في "تسلل" صادم أمام قواعده والتونسيين جميعا والعالم بأسره.
المشيشي قلب المعادلة؟
عزوف أنصار النهضة عن "دعم" حركتهم استبطن قطيعة مخيفة بين الرأس والقواعد، وفضح حجم الارتباك بصفوف تنظيم لم يتوقع صفعة مماثلة.
الأمر لم يستغرق سوى ساعات معدودة حتى ينكشف التضارب الصارخ في مواقف الإخوان المبنية على نبض الشارع والتطورات والمواقف المحلية والدولية بشأنها.
وبعد أن اعتبرت قيادات في النهضة، الإثنين، أن لا حوار قبل عودة المؤسسات، جاء الثلاثاء في بيان للحركة أنها "من أجل الخير للحياة الديمقراطية مستعدة لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة ومتزامنة من أجل ضمان حماية المسار الديمقراطي وتجنب كل تأخير من شأنه أن يُستغل كعذر للتمسك بنظام استبدادي".
تبدل ضوئي في مواقف الحركة يرجعه مراقبون إلى متغيرات عدة على رأسها انقلاب المشيشي عليها بإعلانه استعداده لتسليم مهامه إلى الشخصية التي يختارها سعيد، في وقت يبدو أن الحركة كانت تراهن على تمسك المشيشي بمنصبه لتتخذه ورقة ضغط على الرئيس.
ومع إعلان أسامة الخليفي، رئيس كتلة "قلب تونس"؛ حليف الإخوان، تفهمه لقرارات الرئيس، وهو ما فعله أيضا حزب تحيا تونس، بدا أن الجميع يبحث عن خلاص شخصي يمنحه تموقعا أفضل بالمشهد الجديد، ليجد الإخوان أنفسهم على خط التماس مع عزلة سياسية مؤكدة، فكان أن فضلوا الانحناء للعاصفة، وغيروا لهجة بياناتهم من التصعيد إلى التهدئة ومنها للدعوة إلى الحوار.
رهان الخارج
بعد الداخل، كانت النهضة تعول على الضغوط الخارجية لدفع سعيد على التراجع عن قراراته، لكن معظم المواقف جاءت مخيبة، بل شكلت مواقف كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية صدمة ثانية له.
عوّل الغنوشي على الإدارة الأمريكية الجديدة التي كان حتى وقت قريب يعتقد أنها امتداد لعهد باراك أوباما الداعم للإخوان، لكن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أطاح بقراءاته حين اكتفى في اتصال هاتفي مع الرئيس التونسي بكلام عام من نوع "الإبقاء على حوار مفتوح مع جميع اللاعبين السياسيّين والشعب التونسي.
أيضا، تعتزم واشنطن إرسال مليون جرعة من اللقاح ضد كورونا إلى تونس، في رسالة مشفرة مفادها أن الزلزال الذي ضرب الإخوان لا يعنيها كثيرا.
شبح الانتخابات
المتغيرات في تونس قد تطرح سيناريو الذهاب لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة وهذا أسوأ ما قد يطرح على إخوان البلاد، في وقت أكدت فيه الأحداث الأخيرة نضوب رصيدهم الانتخابي.
كما أن الرجوع إلى ما قبل القرارات الرئاسية يظهر الرعب الذي يثيره أي سيناريو محتمل لاقتراع مبكر.
فحين نقل رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، قبل فترة، عن سعيد قوله إنه عازم على الذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة وذلك فور الانتهاء من تنظيم استفتاء شعبي على تغيير النظام السياسي، سارع الإخوان لترويج خطاب الدعوة لحوار شامل والبحث عن توافقات جديدة.
الغنوشي سارع حينها للقاء سعيد بحثا عن توافق مغشوش أكد مقربون من الرئيس أنه مستبعد في ظل الشروط الصارمة التي يضعها الأخير قبل الجلوس للحوار مع حركة النهضة وحلفائها، وهذا كان قبل القرارات.
فرغم تأكيد سامي الطريقي، المستشار الخاص للغنوشي، أن الحركة الإخوانية لا تخشى الذهاب إلى الانتخابات إذا فشلت الحلول الدستورية، إلا أن محللين يؤكدون أن مجرد حديث سعيد عن انتخابات مبكرة كان صادما لحركة تتخبط في مشاكلها الداخلية ويضيق عليها الخناق خارجيا.