الحرة

يمتد حزام البؤس شيئاً فشيئاً في بيروت، وتتحول عائلات كانت مكتفية إلى الأمس، لتصبح اليوم تحت خط الفقر.. فجأة ظهرت المدينة بوشاح آخر مغاير لما عهده اللبنانيون. الأزمة التي تعصف بالبلد منذ ما يقارب السنتين تأخذ في طريقها كُل شيء، بينما لا شيء جدياً يحصل لوقف هذا التمدد المخيف لوجوه تستغيث من التعب، والجوع والعوز.

الأزمة الاقتصادية التي تُحاصر اللبنانيين تأخذ الطريق السريع نحو الهاوية، وفي طريقها، يحاول الركاب قدر الإمكان النجاة ولكن لا يبدو أن حظوظهم عالية.

عائلات بأسرها صارت تنتظر "الرحمة" كما يقولون، والرحمة هنا ليست بتدخل الدولة أو بصحوة وزارة تُعنى بشؤون الناس، بل هي في أحسن أحوالها جمعية تمدهم بالدواء وجار مرتاح يؤمن لهم القليل من الحبوب لمواجهة خواء بطونهم، أو صاحب محل عصير يسمح لهم بأن يتذوقوا سوائل مختلفة عن المياه.



وجوه متعبة لا تنتظر شيئا

وجوه متعبة لا تنتظر شيئا

يُحيط الفقراء أنفسهم بالكبرياء. غالبية منهم لا تضعف أو تحاول قدر الإمكان ألا يظهروا واقعهم لأنهم لا يحتملون الذل. هذا واقع كُثر، لا سيما في مناطق يقولون عنها إنها عشوائيات، ظلمها النظام المتغرب عنها، والمُجتمع الذي يُصنفها بحسب هواها السياسي، ومن تلك المناطق محلّة خندق الغميق العشوائية، التي تبعد بضعة أمتار عن وسط بيروت، وجه المدينة الحضاري المرمم الذي لا يغطي الندبات المنتشرة من حوله.

الخندق الغميق، أو كما يصطلح سكانه على تسميته، منطقة غالبيتها من الطائفة الشيعية، تغرق بالأسود الباقي من أيام عاشوراء وصور "القادة"، الأحياء منهم و"الشهداء"، تغطي معظم جدران الحي الذي يشعر سكانه أنهم معزولين عن محيطهم، وهم الذين يتحدرون من قرى جنوبية ومن نزح من عائلاتهم في السابق كانوا عمالاً في مرفأ بيروت والبلدية.

مرّ على الخندق الكثير: الحروب المتلاحقة، حروب محلية وخارجية. مناكفات ومناحرات ونزاعات ارتدت الطابع المذهبي وأخذت منه دون أن تعطيه. مرّ على الخندق الكثير، ولا شيء يُشبه ما يشهده اليوم. كان سكانه ينتظرون الحرب وهم اعتادوا أن يكونوا مجتمع حرب، ولم ينتظروا يوماً أن يُحاصرهم رغيف الخبز من دون أن يستطيعوا لوصول إليه.

بؤس الحي، يُختزل في منزل، أو منازل كثيرة لجأت إليها العائلات الجنوبية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بحثاً عن حياة لم يعثروا عليها، ولا الجيل الذي أتى بعدهم وجدها أو اقترب حتى منها، وآل حيدر الذين ترعرعوا في الحي خير شاهد على حياة صعبة، حوّلتها الأزمة الأخيرة إلى حياة مستحيلة، لكنهم يخوضونها إلى نهايتها.

في منزل يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، تقطن 3 عائلات مع بعضها، كأنهم يتقاسمون غرف فندق ليس فيه من الخدمات شيئاً. المنزل ليس ملكهم، بل هو "إيجار قديم" باسم شقيق محمود حيدر الذي يقطن فيه مع عائلته المكونة من زوجته و5 أولاد، ويُشاركهم فيه مريم قاروط (61 عاماً)، وسلوى حيدر(49 عاماً) وشقيقتها ليلى (52 عاماً). ثلاث غرف نوم، لكل عائلة غرفتها وحمام واحد للجميع.



إلى أين من هنا؟

إلى أين من هنا؟

توفي زوج مريم قبل 21 عاماً.. كانت لا تزال في مقتبل عمرها. انزوت في غرفة في المنزل مع أدويتها التي لا تجد لها الأموال الكافية. اجتمعت في مريم كُل الأمراض تقريباً، قلب ضعيف وضغط متقلّب وسُكري، رغم أن بائع الحلويات الذي يبعد بنايتين عن المنزل لم تزره منذ أكثر من 3 سنوات. سرير صغير وخزانة أصغر لا تحتوي على الكثير، وتلفاز قديم هو كُل ما تملكه، وسجادة صلاة وضعتها في غرفة صغيرة جداً، حولتها إلى مكان تختلي فيه بنفسها و"بخالقها لتطلب الرحمة في أيام لا أحد يرحم فيها أحدا".

لم تخرج مريم من البيت منذ زمن. إلى أين تذهب؟ ولماذا؟ تؤنسها زيارة ابنها الذي تزوج مؤخراً وأقامت له حفل عرسه، أو "الزفة"، في الشارع لأنها لا تستطيع أن تدعو الناس إلى منزل لا مكان تُجلس فيه ضيوفها. التعب فعل فعله بمريم التي تمضي يومها في انتظار أن يقرع أحدهم الباب حاملاً معه مونتها لشهر من أدوية متنوعة تبلغ أكثر من 20.

في الغرفة المجاورة لمريم، تنام سلوى وشقيقتها ليلي. سلوى أيضاً مريضة، تخرج من غرفتها ثم تعود مسرعة حين تأتي الكهرباء كي تجلس على آلة ضخ الأوكسجين. رئتاها بحاجة إلى مساعدة كي تُبقيانها على قيد الحياة. قبل يومين ضاق صدرها وانحبس نفسها ولم تجد كهرباء تُسعفها، اتصلوا بالصليب الأحمر الذي كما يفعل كُل مرة "يُنقذها من نوبة جديدة"، في انتظار يوم آخر مع المعاناة المستمرة.

شقيقة سلوى، ليلى (52 عاماً)، من ذوي الاحتياجات الخاصة، تعاني من متلازمة داون. كلتاهما بحاجة إلى رعاية لا يجدانها. تحاولان على قدر ما أمكنهما تمرير الوقت بأقل ضرر. تُشير ليلى إلى صورة والديها، ثم تبتسم، وتعود وتُشير إلى جهاز شقيقتها وأيضاً تبتسم. تقول سلوى: "هي تُدرك أن بقائي إلى جانبها يؤمن استمراره هذا الجهاز، لهذا تبتسم".

في الصالون الكبير بجدرانه العالية التي تُصعب التدفئة في فصل الشتاء، يجتمعون بين الحين والآخر فهو المكان المشترك بين الجميع، إلى جانب الحمام. يروي مهدي (21 عاماً) وهو الابن الكبير لمحمود: "حين وقع انفجار المرفأ تناثر كل شيء. طار الزجاج والخشب كُل شيء. لقد أعادوا بعض الجمعيات ترميم المكان. على أي حال صار المكان أفضل".

وبينما يروي أهالي بيروت عن الانفجار الذي شردهم ودمرهم وأعادهم سنوات إلى الوراء. يروي آل حيدر عن الانفجار الذي ساعدهم على أن يُصلحوا منزلهم المتهالك.. يروي أهل بيروت عن الانفجار بوصفه ساعة القيامة. يروي آل حيدر عن الانفجار بوصفه ساعة خلاص. النوافذ التي كان يصعب عليهم إصلاح ما تلف منها، عادت اليوم وكأنها جديدة مقارنة بالحال الذي كانت عليه قبل تاريخ 4 أغسطس. الجدران صارت أكثر بياضاً كقلوبهم الوديعة. يبتسمون بكبرياء. يتحدثون بخفر. يسألون ولا يطلبون.

إلى جانب مدخل المطبخ وغرفة محمود وعائلته، تقف مهى جواد، زوجته. إلى جانبها بناتها الأربعة ومهدي شقيقهم الأكبر في الجانب الآخر من الصالون. مهى لا تُفارق الابتسامة وجهها رغم أن لا شيء في حياتها يدعو للبسمة، تمشي إلى جانب محمود الذي غطى فمه بكمامة لا تقيه فقط من الوباء، بل تُخبئ ما فعل الزمن بأسنانه التي لم يبق منها الكثير. تقف على مدخل المطبخ حيث يتقاسمون خبز يومهم. تقول: "نتشارك كل شيء إلا الأكل. نحن عائلة كبيرة أما هم فلا. أنا أريد أن أطعم أولادي قبل أي شيء آخر. أفعل كُل شيء من أجلهم، فقط".

يسمع محمود كل مرة يمر إلى جانبه كلاماً من قبيل "كيف الإقامة في الفندق". يغص في الكلام. الغرفة التي ينامون فيها لا تتعدي الخمسة أمتار. قسموها بلوح من الخشب، فصارت غرفتين صغيرتين ينام فيها 7 أشخاص على فرشات صارت أقرب إلى السجاد من كثرة استعمالها. يضحك مهدي وهو يدل إلى الزاوية التي يضع فيها فراشه وينام. يقول: "أنا وحجمي (ضخم البنية) ننام هنا كُل يوم، لا أعرف كيف أغفو وكيف أصحو. أعد الأيام مع عائلتي".

مريم مدخنة. ابنة مهى الكبيرة آلاء (16 سنة) تبيعها علب الدخان، وما تجنيه منها تصرفه على شقيقاتها. حاولت طيلة فصل الصيف أن تجمع المال كي تذهب إلى شاطئ غير مختلط لكنها لم تنجح. نقلت مدرستها من رأس النبع إلى واحدة أقل جودة، تستطيع قدماها أن توصلها إليها مع شقيقاتها الثلاثة. كُلفة النقل شهرياً تكفيهم 6 أشهر أكل. هكذا تحسب آلاء حياتها.

من خلف كمامته يقول محمود: "يسألني الشيخ في الجامع عن أحوالي. أجيب: الحمد لله. شيخ آخر، ساعدنا بمبلغ 300 ألف ليرة، اشترت بهم مهى دواء الغسيل". ومهى عاتبة على المشايخ كعتابها على الدولة وكُل مسؤول: "يعيشون في النعيم ويتصدقون علينا بالقليل من العدس والفول". في عز غضبها لا يُمكنها أن تنزع عن وجهها الابتسامة. تهدأ وتردد "الله كبير".

أحزاب المنطقة، وتحديداً حركة أمل، تُساعد عائلة محمود في تعليم أولاده. المبلغ الباقي تصارع العائلة لتأمينه كي لا ينتهي الأمر بأولادهم من دون مستقبل، أو من دون أمل بالمستقبل. ومحمود، يعمل في مستودع "جريدة النهار"، وظيفته تحميل وتوزيع الجرائد ويحصل مقابل يوم عمل على 50 ألف ليرة. في الشهر الكامل يجني محمود 600 ألف ليرة أي 30 دولاراً. يكفونه وعائلته 5 أيام كحد أقصى.

كانت مهى تجلس على الشرفة تشاهد ابنها مهدي وهو يتنشق النرجيلة في القهوة المجاورة، ليس كزبون بل كموظف يحرص على أن يُشعلها (النرجيلة) لهم كي لا يتعبوا. تُشاهده وقلبها يحترق مع كُل جمرة يضعها فوق نرجيلة جديدة لزبون جديد. "ابني يحرق رئتيه. لماذا هذا الذل؟ من أجل أن نستطيع الأكل. هذا حالنا". تمضي عائدة إلى الصالون. مريم تنفخ سيجارتها في انتظار زيارة ابنها أو زيارة من يأتيها بالدواء. سلوى تقف على باب غرفتها وتضع على وجهها جهاز التنفس. ليلى بحالها. محمود ينظر إلى السقف، بينما بناته يحاولن أن يدعين الفرح من دون جدوى. مهدي يحرس أحلامه البعيدة عن مدخل المنزل.. العائلة بأسرها في "خندق".