الحرة
احتشد عشرات من اللبنانيين، الأربعاء، أمام قصر العدل في بيروت في اعتصام كان مقررا، أيضا، قبل أن يُعلّق التحقيق بعد أن قدم الوزير السابق نهاد المشنوق دعوى "كف يد" بحق المحقق العدلي طارق بيطار، في انتظار أن تبت فيه محكمة الاستئناف.
الاعتصام كان حاشداً مقارنة بالاعتصامات السابقة التي كان لا يشارك فيها إلا أهالي الضحايا وقلّة من المتضامنين، فيما المجموعات التي تدعو إلى المشاركة عند كل تحرك تواجه صعوبة في حشد الناس، الذين يصطفون منذ أشهر في طوابير طويلة من أجل الحصول على الوقود والخبز لكي يعيشوا أيامهم، كل يوم على حدا.
شعارات كثيرة رُفعت؛ يافطات كُتب عليها "المنظومة ساقطة" و"منظومة النيترات" و"وراكم حتى العدالة"، وصور كثيرة كتب تحتها "كان يعلم" تبدأ برئيس الجمهورية ميشال عون وتمر على رئيس الوزارء السابق حسان دياب والوزارء السابقين الذين رفضوا المثول أمام المحقق العدلي علي حسن خليل ويوسف فنيانوس وغازي زعيتر، ونهاد المشنوق الذي قدم دعوى كف اليد يوم السبت الماضي ليتم تعيق التحديد الذي يقوده بيطار.
والوجوه التي حضرت أمام قصر العدل مألوفة. غالبيتها كانت جزءاً من احتجاجات 17 أكتوبر 2019. وقفت من دون صراخ أو ترديد شعارات في بادئ الأمر. كانت فرصة للعودة إلى الشارع ولو بشكل اعتصام محدود سينتهي بعد ساعة أو أكثر. حديث متشعب غالبيته يتمحور حول التحقيق، وحول ما يحصل والنتيجة أو الخلاصة التي يرددونها أن النظام لا يريد طارق بيطار، وبالتالي لا يريد التحقيق.
كُل حديث السياسة والتحليلات التي تُسمع يُقابلها صمت تام لدى أولياء الدم. لا يخرج الصوت من أفواههم بسهولة، مزيج من الحزن والتعب والغضب بعد سنة وشهرين من الصراخ لأجل العدالة، من التظاهر والاعتصام وحتى الهجوم على منازل من يعتبرونهم مسؤولين. فوق كُل ذلك، أتاهم عامل جديد: "كفّ اليد". تقول ريما الزاهر شقيقة أمين الزاهر وهو أحد ضحايا الانفجار: "معيب ما فعله نهاد المشنوق".
ريما في كل اعتصام حاضرة، وعند كل لقاء، وسد طريق وتصعيد. لم يعد لديها ما تخسره، كُل ما تريده هو العدالة. والعدالة تراها تبتعد عنها مع ذلك إصرارها لا يتراجع. تدعو كل الناس للوقوف مع قضيتهم لأنها تعني الجميع. "حصل انفجار المرفأ السنة الماضية ولكننا لا نعلم هذه السلطة ما الذي تخبئه لنا. على الجميع أن يكونوا هنا. عليهم أن يصحوا. هذه السلطة لا تذلهم فقط بالوقود ولقمة العيش بل بحياتهم أيضاً. نحن بالنسبة للدولة اللبنانية مجرد أرقام فقط لا غير".
"شباب بعمر الورد ذهبوا. ماتوا. الزعران ما زالوا على الكراسي"، تقول ريما قبل أن تعود إلى صمتها وحزنها. إلى جانبها مجموعة رفعت شعارات كُتب عليها "منظومة النيترات ساقطة"، حصانتكم ساقطة" و"مع الحق ضد الظلم" و"منظومة القبع بدها قبع"، و"القبع" مُصطلح قيل إن رئيس لجنة الارتباط في حزب وفيق صفا استخدمه في الرسالة التي وجهها إلى بيطار قبل أكثر من أسبوع.
يقول جوزيف وهو واقف أمام قصر العدل: "منذ العام 2005 ونحن نموت تارة بالتفجير وتارة بالاغتيال وتارة بالرصاص. الشعب اللبناني صار يعرف الحقيقة، والشعب اللبناني اليوم بحاجة لحماية دولية. لا أحد يرد علينا ولا أحد يهتم لأمرنا من كل هذه المنظومة". يريد جوزيف من المغتربين أن يساعدوه في مطلبه، في مطلب الحماية.
ولجوزيف رأيه بكُل ما يحصل، يقول أيضاً: "رئيس الجمهورية لماذا يصمت؟ هو كان يعلم". هذا الثابت لديه ولدى كل من حضر في الاعتصام. ينتهي من الحديث، الناس تنتظر كلمة أهالي الشهداء التي تأخرت. فجأة بدأ الهرج والمرج عند مدخل قصر العدل. ما الذي يحصل؟ هناك من هجم على المحامي رامي عليق متهماً إياه بأنه "عوني" أي مع التيار الوطني الحر مبرراً ذلك بعلاقة عليق بالقاضية غادة عون القريبة من القصر الجمهوري.
يُهرّب علّيق إلى داخل قصر العدل. آن أوان كلمة الأهالي. يصرخ رئيس لجنة الأهالي إبراهيم حطيط بأهالي الشهداء "هيا، سننسحب". خرجت في خضم الهرج والمرج بشأن عليق هتافات تردد "حزب الله إرهابي". الهتاف الوحيد الذي رُدد. اعتبر حطيط أن التسييس سيضر قضيتهم. يقول لموقع "الحرة": "هناك ناس آتية من أجل تسييس قضيتنا وتوجيه رسائل سياسية. قضيتنا مقتلها التسييس. نحن نريد العدل والحقيقة، ومن يريد أن يقف معنا بهذا الخيار أهلا وسهلا. من يريد توجيه الرسائل السياسية فليفعل ذلك بعيداً عنا. دمنا ليس رخيصاً".
أيضاً، يقول مجيد حلو وهو والد نيكول التي توفيت نتيجة انفجار المرفأ: "نحن لا نريد أن نتهم أي جهة سياسية. نحن نريد أن نعرف من قتل لنا أولادنا. والقضاء وحده من يحدد من قتل أولادنا ومن ارتكب الجريمة. نحن لا نريد أن ندخل في أجندات سياسية. مطلبنا المحاسبة ونرفض من يستغل وجعنا من أجل إيصال الرسائل السياسية".
وهو في طريقه لمغادرة الاعتصام، وبينما يدعو الأهالي للانسحاب، يصرخ إبراهيم حطيط "حين يتهم القضاء أي جهة سترونني أول من يقف ويشتم ويطالب بإنزال أشد العقوبات بحق المتهمين". يغادر لكن ليس جميع الأهالي مشوا خلفه. يقول وليم نون شقيق الضحية جو نون: "لكل واحد الحق أن يقول ما يشاء ويعبر عمّا يشاء. نحن نريد العادلة".
ريما الزاهر لم ترحل. بقيت في الاعتصام تحمل صورة شقيقها وتردد "اتركوا أجنداتكم في منازلكم وتعالوا لتقفوا معنا". لكنها أيضاً تتفهم الشعارات ولن ترحل بسببها. هي أيضاً تعتقد أن لا خلاف بين أهالي الضحايا "فكل واتحد حر فيما يراه ولكن في النهاية تجمعنا قضية عادلة ولا شيء يُمكن أن يؤثر على هذا الأمر ولا على تنسيقنا وتحركاتنا القادمة".
قبل أن يحصل الخلاف، ذكّرت ريما بأن من يوجه رسائل التهديد هو من يفضح نفسه ويفضح حزبه في إشارة إلى وفيق صفا وما فعله مع بيطار. وبينما كان مجيد حلو يتحدث عن عدم التسييس، تتوجه إليه إحدى المعتصمات بالقول: "ليس نحن من نسيّس. من يهدد القاضي هو من يسيّس التحقيق".
انتهى الاعتصام من دون تصعيد ولا حتى اتفاق على موعد جديد لتحرّك آخر. عاد الجميع إلى منزله فيما الثابت الوحيد أن التحقيق بانفجار أودى بحياة المئات وشرّد عشرات الآلاف، متوقف.