بالمناسبة، هذه ليست المرة الأولى التي يُحاكم فيها المشروع الحداثي، الذي تجاوز عمره الثلاثة قرون، وشكل الصورة الحالية لكوكب الأرض، وأخرج مفهوم الحضارة من الأطر الضيقة، كالحضارة الإغريقية والفرعونية وما بين النهرين والهندية والإسلامية... إلخ. ودمجها معاً في الحضارة الإنسانية التي يساهم الجميع في تطويرها وتعزيز هويتها الجامعة.

ومازال تعريف الحداثة موضوعاً إشكالياً، إلا أن أهم التعريفات التي تم الاتفاق عليها، هو أن الحداثة تحرير الإنسان من سلطة الأشخاص والأساطير والمقولات المقدسة إلى إعمال العقل والمنطق. وتسخيرهما في السيطرة على الطبيعة من أجل خدمة الإنسان، وخلق مجتمع واحد أوسع من المجتمعات القومية يقبل بالآخر ويعترف بالتعددية ويحترم الحرية الذاتية. وكان مأمولاً بجانب التطور العلمي المذهل الذي حققته مقولات الحداثة في تحرير العقل وإطلاق امتدادات تفكيره أن تخلق الحداثة عالماً سعيداً مستقراً ينعم بالأمان والإنسانية والمحبة المتبادلة. وكانت الأفكار والجماعات التي تقاوم الاندماج بالآخر وقبول حقوقه توصف بأنها أفكار وجماعات ضد الحداثة.

وربما شاب الحداثة في الفترة من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين بعض «النفاق» كما يصفه الدارسون بسبب النشاط الاستعماري القاسي لبريطانيا في الهند ومستعمرات الكومنولث، والاستعمار الفرنسي في الجزائر تحديداً، إلا أنه نشاط تم تبريره وتغطيته برداء نشر الحداثة ومساعدة الأمم البعيدة في ولوج الحضارة الجديدة. غير أن أكبر صدمة واجهتها الحداثة اشتعال الحربين العالميتين اللتين استخدم فيهما كل منتجات العلم الحديث، فقتلت ما لا يقل عن ستين مليون إنسان، وخلفت عشرات الملايين من المعاقين والجرحى، ودمرت دولاً بأكملها.

كان تأثير الحربين العالميتين بارزاً في تحول الفلسفات التي ارتدت نحو العبثية والعدمية وغيرها من التصورات السوداوية الفاقدة للإيمان بالعقل والإنسان. لكن في كل مرة كانت تنجو فيها الحداثة، كانت الحروب والغزوات تتكرر واستغلال العلم والعقل في التدمير يستمر. إلى أن وصلنا إلى قصف النيتو ليوغسلافيا، وغزو أمريكا لأفغانستان والعراق. هذه ليست حروباً همجية أشعلتها الأمم والجماعات المعادية للعقل والإنسانية والحداثة، هذه حروب أشعلها الغرب الذي أوقد مصابيح التنوير بدءاً من القرن السابع عشر الميلادي.

وقد تكون مقولات الحداثة على مستوى الإنسانية وقبول الآخر والتعددية، تاريخياً، أكثر نجاحاً ونجاة من المفارقات مقارنة باستغلال نتاجات العلم. إلا أنها بدأت تتزعزع في السنوات الأخيرة حين وضعت على المحك وفي مواجهة تمثلها على الواقع. فعندما ارتفعت نسبة المهاجرين إلى أوروبا من ثقافات متعددة وخصوصا إسلامية، لم تصمد قيم الآخر طويلا؛ إذ نشطت الأحزاب اليمينية والشعبوية، وبنت برامجها على تقليل نسبة الهجرة أو منعها أو إبعاد المهاجرين. واستهدفت ثقافة المسلمين وخصوصيتهم كـ «خصم» للقيم الأوروبية وللهوية الغربية. وربما يلتمس العذر لهذا التوجه في القلق على الهوية، لكن على الغرب أن يدرك أن أهم أسباب الهجرات هو تدخل الغرب نفسه في دول المهاجرين إما بإذكاء الحروب أو بالسيطرة على الثروات الطبيعة. فضلاً على واجب الغرب في تطوير مفهومه للخصوصية والحرية الشخصية بما لا يفاقم الأزمات بين المهاجرين والسكان الأصليين.

على الصعيد ذاته تزداد أزمة المسلمين في الهند بصعود حزب بهاراتا جاناتا الهندوسي المتطرف. ويطرح الحزب مبررات غريبة وغير مقبولة مثل الاحتلال الإسلامي القديم والغزو المغولي وهي قضايا تاريخية تجاوزتها كل الأمم في مفهوم الشعب الأول، والعرق النقي! إلا أن الهند وهي واحدة من أعرق العلمانيات في العالم، والعلمانية منتج حداثي غربي تبنته الهند وبه حققت تقدماً وتنمية قياسية على مستوى العالم. تتراجع اليوم عن حداثتها لتنظم لليمين المتطرف المعادي «للحداثة».

استهداف المسلمين، أو أي ديانة، أو عرق. في أي مكان في العالم، وخصوصاً أوروبا أو الدول التي تتبنى العلمانية في دساتيرها، مؤشر على أن ما يسمى «بالقيم الإنسانية» التي أسست لها الحداثة وعملت على الترويج لها كوجه عالمي جميل للغرب لم تترسخ أصلاً. وقد تكون غير منطقية و«مناقضة للعقل» على مستوى تحققها الفعلي. نحن ما نزال نعيش في عالم يؤمن بالانحيازات، وبالهويات الخاصة، والانغلاق على الذات. عالم يؤمن بالتاريخ والجغرافيا أكثر من إيمانه بالفضاء. ويحافظ على أطرهما من كل تحديات ما هو عابر للقارات.