أثار الكثيرون ضجة حول ما صرح به علانية جون بولتون السفير ومستشار الأمن القومي السابق بالحكومة الأمريكية، بشأن المخططات الأمريكية لـ«تدبير انقلابات في الخارج»، أي الضلوع الأمريكي في زعزعة أمن واستقرار دول ومحاولة الإطاحة بأنظمتها.

التعليق الأمثل على تصريحات بولتون كان من الجانبين الصيني والروسي، حيث قالت الصين على لسان وزير خارجيتها وانغ وينبين بأنه لا يرى ما يثير الدهشة في كلام بولتون، لأن السلوك الأمريكي بات واضحاً بشأن النزعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول والإطاحة بالحكومات. بينما الروس وعلى لسان المتحدثة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا بينوا أن هذا سلوك معتاد، لكن تصريحات بولتون تمثل واقعة تحتاج لتدخل دولي.

هنا نقول بأن خلاف مثل هذه التصريحات التي تؤكد حقيقة يعرفها العالم بأسره، خلاف ذلك أمور لا تهم إطلاقاً، خاصة المحاولات التي ستسعى لتبرير ما قاله الرجل؛ إذ الحقيقة ثابتة ولا يمكن تغييرها، وهي ليست نتاج اليوم أو الأمس القريب، بل هي أساس بني عليه تاريخ السياسة الأمريكية في الخارج، أساس قوامه السعي المستميت للتدخل في شؤون الدول وإدارتها بطرق مباشرة أو غير مباشرة والتحكم في مصائرها كأنظمة وشعوب. الولايات المتحدة الأمريكية لا تملك تاريخاً كبيراً بالنسبة لحركات الاستعمار الخارجية وفرض السطوة والوصاية المباشرة مثلما تملك كتاريخ بريطانيا العظمى وأغلب الدول الأوروبية كفرنسا وهولندا والبرتغال وإسبانيا، إلا أن الولايات المتحدة منذ تأسيسها على الأرض المستوطنة المكتشفة آنذاك، ومنذ عملية إبادة الهنود الحمر، والتحول لقوة عالمية، وهي تمثل نظاما يحاول الدخول في منظومة نادي الكبار، لذا كان لواشنطن تواجد في الحرب العالمية، رغم أنها تمثل صراعاً دائراً في بقعة جغرافية تبعد آلاف الأميال عنها، لكنها الرغبة في دخول نادي الكبار، وهي العملية التي نجحت فيها، لكنها لم تكفيها.

إن كانت حركات التحرر من الاستعمار والانتداب نجحت، وتراجعت القوى الأوروبية المهيمنة حينها، إلا أن الأمريكان بدأوا استعماراً من نوع آخر، نوع لا يقتضي التواجد المباشر على الأرض ولا السيطرة الميدانية على الدول ومواجهة حركات التحرر الشعبوية بالقمع والقتل، بل استخدموا أسلوب «الاستعمار البارد» القائم على فرض الوصاية عبر ضغوطات وعقوبات أو منح مساعدات ثم منعها لو لم يتعاون من يساعدونهم.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر باتت عملية التدخل في شئون الدول الأخرى، والتحكم في أنظمتها، بل السعي للإطاحة بها، وفي جانب آخر الاستيلاء على خيرات وموارد تلك الأراضي، باتت هذه العملية تمثل «الهواية الرسمية» لما يسمى بالسياسة الأمريكية الخارجية. إن كان بولتون قد أثار الأجواء باعترافه كمسؤول سابق عن «مخططات لانقلابات في دول»، فإن الشواهد تقول بأن هناك تدخلات مثبتة لإدارات سابقة، وحتى حالية، إذ الإدارة الحالية تمثل امتداداً للإدارة قبل السابقة، وأعني إدارة أوباما التي دعمت الإرهاب الإيراني وغيره، ودخلت بقوة في منطقتنا بحجة دعم ثورات الربيع العربي، وهي في الحقيقة لم تدعم بقدر ما كان يهمها إسقاط أنظمة وتغليب صوت معارضين وممارسين للإرهاب والتطرف، وكلها وثقوها -أي الأمريكان- بأنفسهم، وستجدونها بتفصيلها الممل في كتب هيلاري كلينتون وباراك أوباما وحتى زوجته ميشيل. هم وثقوا بأنفسهم مساعيهم للتدخل في شؤون الدول وكيف أفشلت شعوب الخليج العربي تحديدا وعلى رأسهم البحرين مساعيهم لدعم الانقلاب فيها. وقبلهم كشفت كوندوليزا رايس عن تفاصيل مشروع تجنيد المعارضين لتحريكهم ضد بلدانهم وحكوماتهم في إطار مشروع «الشرق الأوسط الجديد».

وعليه نعلم ويعلم العالم أن هدفهم الدائم «التدخل في شؤون الدول» و«دعم الانقلابات على الأنظمة». يبقى السؤال: كيف يتوجب التعامل معهم؟!

لعل حرب روسيا وأوكرانيا حملت بعض الإجابات على ذلك، ولعل محاولة إعادة النظر في الأسلوب ومساعي تعديل العلاقات التي يقوم بها بايدن هذه الأيام بالأخص مع الشقيقة السعودية، تبين أفضل السبل في كيفية التعامل مع «حاضني الإنقلابات» هؤلاء. والحديث يطول.