كشفت دراسة علمية جديدة للباحث نوح خليفة بعنوان التغير الاجتماعي بقرى شمال البحرين "دراسة استكشافية" أن المجتمع القروي يتكون من أغلبية عظمى طبقة متوسطة ونخب ثرية وأقليات تقليدية مفسرة التباينات الطبقية بعوامل أبرزها الوعي واللا وعي بالمتغيرات الاحدث بين القرويين وتباين درجة التمسك بالتعليم خصوصاً بين القرى التي مازالت تحتفظ بموارد اقتصادية تقليدية زراعية، وتأثيرات الميراث والأب الغني والأب الفقير، إضافة إلى تخلف أقليات عن الاستمرار في اللحاق بركب التغير والتطور المهني في قطاعات نفطية وصناعية وحكومية مختلفة، ومغادرة مواقعهم المهنية الحداثية عزوفاً منهم عن التغير وعودة إلى عيشهم التقليدي مع بدايات اكتشاف النفط، واتخاذ الاقليات التقليدية قرارات مصيرية نحو مواجهة الحياة بامكانية تقليدية والاستمرار في انجاب اجيال تقليديين وانتاج بيئة تقليدية خادمة في مختلف المجالات، وتبني زعامات تقليدية.
وبينت الدراسة أن البنية الاقتصادية الحديثة في الوسط القروي سواءً تلك التي تتبين من خلال المباني التجارية ممثلة بالمجمعات والمراكز الخدماتية أوالمباني الاستثمارية الاخرى كالعمارات والبيوت والاراضي السكنية تعكس الجذور الطبقية التاريخية التي تفسرها الدراسة بحسب مصادر متنوعة ممثلة في (الوثائق-وأقوال الاخباريين-ومعايشة كبار السن).وأشارت الدراسة إلى أن الخدمات الحكومية نجحت في ضم شريحة واسعة من سكان الوسط القروي البسطاء إلى الطبقة المتوسطة وتحويلهم إلى أغلبية ميسورة الحال خلال مراحلة حكومية تاريخية مستمرة عبر الامتيازات الوطنية سواءً المهنية أو التعليمية أو مختلف متطلبات العيش الحديثة، وضمانات القضاء على العوز الاجتماعي.
وكشفت الدراسة أن الوعي واللا وعي بمتغيرات الأزمنة الاحدث أسست للتباينات الطبقية الحالية وبروز طبقات ثرية وأخرى متوسطة وتقليدية وذكرت أن نخب قروية مقتدرة استثمرت انخفاض وعي القرويين البسطاء آنذاك عبر شراء مزارعهم واستثمار طاقاتهم عبر ما يسمى الشراكات التجارية العائلية. وبينت الدراسة أن الطبقات الغنية نهضت عبر التخطيط لمرحلة مابعد التغير وعملت في مشروعات تجارية من خلال استثمار اعضاء من الاسرة وكانت النخب الميسورة احد عوامل نشوء الطبقية واستمرار وجود أقليات تقليدية تابعة لها، إضافة إلى تخلف بعض القرويين عن المهن الحداثية تمسكاً منهم بعملهم الزراعي في أراضي بمواقع انتاجية تقليدية لا يملكونها بل يقتاتون منها نظراً لكلفة حرث وزراعة الاراضي آنذاك، وقيامهم ببيع اراضيعم لقرويين آخرين استثمروها على المستوى المعاصر.
وتربط الدراسة بين عوامل استمرار الاقليات التقليدية على المستوى التاريخي التي تعود إلى تخلف البعض عن استثمار مراحل التغير التي اسهمت في تحقيقها شركة نفط البحرين بابكو وغيرها من المهن الحكومية كالتدريس والتمريض التي شهدت اقبالا شعبيا عليها في بدايات تغير الواقع المهني واسهمت في احداث النقلات المهنية .. وغيرها وبين عوامل استمرارية الاقليات التقليدية على المستوى المعاصر التي تعود إلى البيئة الخادمة لاستمرارية الفكر التقليدي وأثر الزعامة التقليدية في تعميق انقياد الاقليات لها وتوسعة الفجوة الضامنة لاستمراريتها ونموها وانقيادها لها، وعزوفها عن اسباب التطور والوئام مع المجتمع الحداثي.
وأوضحت الدراسة أن قرويين باعو أراضيهم الزراعية مقابل زيارات دينية للعراق وايران إضافة إلى كميات من التمر أو مبالغ رمزية ثم انضموا إلى فئة الفقراء، وتبين الدراسة أن مزارع القرويين شهدت آنذات حركة استملاك كبيرة من قبل قرنائهم القرويين من خلال تحفيز البسطاء على بيع اراضيهم مقابل زيارة دينية مشيرة إلى وجود قطاع كبير من المزارع المهملة ذات المساحات الشاسعة على المستوى الحديث تعود ملكيتها إلى قرويين وتشكل عائقاً ايضاً أمام النقلات الحضارية في المجال القروي.
وكشفت الدراسة أن القاسم المشترك الوحيد بين الزعامة التقليدية والاقليات التقليدية هو اعادة انتاج الحياة التقليدية والبيئة الخادمة لسيطرة الحياة والسلطة التقليدية على الحياة والسلطة الحداثية، مشيرة إلى أوجه الاختلاف بينهم ممثلة في ان الاقليات التقليدية تسعى من خلال انقيادها لاستمرارية بقايا السلطة والموارد التقليدية أما الزعامة التقليدية فإنها تسعى من خلال اقتياد الاقليات التقليدية إلى مقاصد سياسية وكلا الطرفين يستثمر الآخر لكن الاختلافات ان الزعامة التقليدية تعيش وعيها الكامل بأهدافها المستقبلية أما الاقليات التقليدية فإنها تعيش وعياً آنياً يقوده الخوف من الحياة الحداثية التي تخلفت عن مسايرتها على المستوى التاريخي مع بداية النهضة.
وتشير الدراسة إلى أن الاقليات التقليدية تنتمي إلى فئات التحقت بوظائف نفطية وصناعية وحكومية ثم همت بالعزوف عن الاستمرارية فيها رفضاً للانخراط في متغيرات جديدة وعادت لمزاولة حياتها العمالية التقليدية في المزارع هربا من الأمارية (بحسب مصطلح دارج يقصد به الأوامر المهنية التدريبية، حيث ان شركة نفط البحرين بابكو عملت على تعليم وتلمذة الملتحقين مهنياً وسلوكياً وثقافياً، ومنحتهم مواقع متطورة ومنها قيادية) ثم سعت في اعادة انتاج حياتهم التقليدية عبر انجاب أجيال تقليدية وتجديد حياتهم المهنية التقليدية في زمن بداية الانتقال الى الحداثة ثم التعمق في انتاج مجالات بيئية واجتماعية تقليدي رغم كل متغيرات الحداثة، وتنوع مسارات الالتحاق بها.
ودعت الدراسة إلى ضرورة تحديث حياة الأقليات التقليدية عبر التدريب المأجور وتوجيه الخدمات على ان يشمل التدريب المأجور بعض العاملين بوظائف تقليدية إذا انطبقت عليهم معايير الحياة او المهنة التقليدية، وأشارت الدراسة إلى أهمية تحديد معايير دقيقة تميز الاسر والافراد التقليديين عن نظرائهم الحداثيين. كما دعت إلى إيجاد سياسات اقتصادية تحديثية للفئات التقليدية سواءً من خلال تحديث سوق سوق المهن التقليدية أو ارساء شركات حاضنة لنوعية المهن السائدة واسنادها لخق مجال مهني ملائم للطاقات القروية التقليدية لتتمكن من الاستمرار بالمهن التقليدية بأجور تسهم في تحديث خصائصهم الاسرية والاقتصادية من جهة، وتوجيه طاقاتهم لخدمة الاقتصاد الوطني من جهة أخرى. وشددت على ضرورة القضاء على الفجوة التي تسعى الزعامة التقليدية في توسعتها بين الأقليات التقليدية ونظم الحداثة. كما دعت الدراسة إلى ضرورة تبني جمعيات تنموية نوعية غير رجعية في الوسط القروي بالشكل الذي يساعد على تغيير نظرة المجتمع الى نفسه وقدراته وتفسيراته إلى مختلف متغيرات العصر وفهمه إلى كيفيات استثمار الامتيازات الحداثية نحو عيشه الاسري والمجتمعي، واعادة ترتيب مختلف أدواره التربوية، وآليات مواكبة زمن الحداثة.