^ يُمثل الفكر القومي العربي حالة الأمة، حالها سياسياً واقتصادياً، اجتماعياً وثقافياً، ويأتي كاستجابة واعية لحاجات الأمة ومتطلبات نضالها لينير ظلامها، ويُبدد أحزانها، وليشق طريقها لتحقيق أهداف مشروعها النهضوي. فالفكر الحقيقي للأمة هو الذي يستطيع أن يجعل كل قضايا الأمة قضية واحدة ولا يُجزئها، ويكون مُقتدراً على مواجهة التحديات التي تتعرض لها، ويُعبد طريقها لتمارس دورها الإنساني والحضاري والتنموي. ولكل فكر مبادئه، المبادئ التي تتفاعل مع قضايا وحاجات الأمة، فالفكر ليس ترفاً، فإن لم تتفاعل مبادئه مع قضايا وحاجات الأمة وشعبها ومصيرها فلن يكون فكراً قادراً على بناء الأمة وطنياً وقومياً وحضارياً. فهل استطاعت الأفكار والأحزاب القومية العربية أن تلبي حاجات الجماهير ؟ وهل مثلت الأمة العربية وأقطارها تمثيلاً صحيحاً ؟ وهل استطاعت مناهجها أن تصنع صورة سياسية واقتصادية واجتماعية مثالية للأمة ؟؟ تعددت آليات الحُكم العربي في الأقطار العربية، بين النظام الملكي والرئاسي (العسكري)، واستطاع حزب عربي (البعث العربي الاشتراكي) أن يصل إلى سدة الحُكم في العراق وسوريا، ومع أن الحزب في العراق استطاع أن يُحقق منجزات اقتصادية واجتماعية وأن يحافظ على الهوية القومية العربية إلا أن التجربة العراقية لم تصل إلى الكمال، وكل تجربة يكون لها أخطاؤها وزلاتها، وهذه الأخطاء لا تعني أن الخطأ في الفكر، إنما الأخطاء تقع أثناء الممارسة، وقد يكون السبب في ذلك نقصاً في الوعي أو نقصاً في فهم الفكرة أو وجود عناصر غير مُهيأة فكرياً، أو عناصر تداخلت مصالحها مع وجودها في هذا الفكر. ومع أن العراق وسوريا يُحكمان بنفس الفكر إلا أن القطرين كانا في حالة عداء فكري وسياسي ولفترة طويلة من الزمن، وقد استغلت إيران هذا العداء لتقف مع سوريا ضد العراق. ومهما كان الفكر صادقاً ونابعاً من روح أمته فإن أعداءه يصنعون من ثغراته وأخطائه باباً للاختراق، فأعداء الفكر من طائفيين وغربيين وصهاينة هم ذاتهم أعداء الأمة ونهضتها، يعملون معاً لأن إسقاط هذا الفكر يُسهل مهمة إعادة تشكيل المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً وأمنياً حتى ديمغرافياً؛ إذاً إذن، لابد للفكر القومي ليكون فكراً نيراً عليه أن يتمتع بالدقة في تمثيل الأمة، والصدق في نضاله، والشفافية في التمسك بمبادئه، وأن يتمسك أولاً وأخيراً بالجماهير لا بالسلطة، لكون الجماهير هي آلية وهدف أي فكر، وأن يحافظ على هويته العربية، وأن يؤمن بعدالة قضية الأمة وأقطارها، وأن يكون ديمقراطياً مؤمناً بالتعددية السياسية، فالحزب القائد ليس هو الذي يَحكم بنفسه مستفرداً بالسلطة ويُهمش الآخرين من قوى سياسية وأفراد، بل هو الحزب الديمقراطي المتفاني في خدمة الأمة وشعبها والذي يعمل متشاركاً مع كافة الفصائل السياسية الوطنية والقومية الأخرى، ومُستبعداً القوى المذهبية والطائفية المقيتة, وأن يكون قادراً على مناهضة القوى المناوئة للأمة ويعمل على عرقلة مُخططاتها، وأن يكون مُقتدراً على تنشئة جيل عربي شبابي جديد من أجل استمرار تواصل هذا الفكر مع كل ما هو مستجد، ولِما للشباب من دور كبير في تحقيق وبناء الأمة وتدعيمها بالمكاسب والإنجازات، والعمل على تنقية الشباب من محاولات طمس هويته وانجراره نحو مستنقعات الطائفية والفئوية، فقوة ونهضة الشباب تمثل تجسيداً لوحدة أهداف الفكر وتجديداً لدمائه. فسنين الفكر قد تطول ولكن مبادئه الحقيقية لا تشيب ودمه يتجدد بهؤلاء الشباب والآتين من بعدهم، والأمة التي أولدت الكثيرين من القادة الميامين والمفكرين والرجال المُخلصين قادرة أن تلد الكثير والكثيرين منهم. إن المرحلة الراهنة التي تمرُ بها الأمة العربية تلقي على عاتق الأحزاب السياسية العربية الوطنية منها والقومية مسؤولية دعم السيادة العربية وتوفير متطلبات استمرار المطالبة بالحق العربي المغتصب في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا والأحواز والجزر الإماراتية، وعدم الاكتفاء بالبيانات السياسية. إن تنمية الوعي الوطني والقومي للجماهير العربية هو السلاح الفاعل ضد كل الإسقاطات المذهبية والطائفية والفئوية، هذه الفئة الواعية من الجماهير هي الكم النوعي الذي تحتاجه الأمة في مرحلتها الحالية، ويُمثل الزاد الحقيقي لمشروعها النهضوي. لم تستطع الكثير من الأحزاب العربية أن تعالج التجزئة والتفتت الذي واجهته بعض الأقطار العربية في السنوات الأخيرة، ومنها تقسيم العراق والسودان، وهذا ما زاد من إضعاف الأمة وتشطيرها إلى أجزاء مُجزأة، وهو ما ترفضه الجماهير العربية وعَرض مصيرها إلى الخطر الدائم والمستمر، تقرير المصير الذي أصبح الآن تحت تصرف وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي جعل مِن تقدم واستقرار الوطن العربي وشعبه رهينة بيد واشنطن والقوى الغربية والإقليمية، وهذا ما أدى إلى أن الحكومات العربية قد فقدت أهليتها في إدارة البلاد العربية، ولم تعد تعبر عن مصالح وتطلعات شعبها العربي، بل أصبحت تلعب أدواراً تتناغم مع القوى الغربية والإقليمية. فما أحوج الأمة العربية اليوم من استلهام الماضي المجيد والارتباط الروحي بها، وصولاً إلى تحقيق أهدافنا الوطنية والقومية ليكون وطننا العربي منيعاً لتناقضات واقعه، وأن تكون حركته العربية رداً على واقع التجزئة والتشتت. فما أحوجنا إلى فكر يقودنا إلى نضال ضد الانحدار والطائفية والتمزق الوطني، فكر يكون صادقاً في مبادئه، مُلتزماً بأهدافه، وحاملاً لأوجاع أمته وشعبها. وبذلك يكون الفكر هو المُعبر عن قوة الأمة وعن أصالتها.