هل الكذب يمثل رد فعل غريزي لدى الإنسان على واقعه اليومي أم أنه قد أصبح اليوم “ضماناً” للنجاح الاجتماعي؟ فمَنّ مِّنا لا يريد مثلاً أن يكون دائماً، في عيون أهله وأصدقائه والمقربِّين من حوله على الأقل، إنساناً طيِّباً، ومخلصاً، ولطيفاً، ومتفهِّماً، ومتسامحاً، ومُعيناً لهم في السراء والضراء؟! هكذا يتساءل علماء الاجتماع الروس الذين يؤكِّدون، وفقاً لنتائج دراساتهم، أن معدّل الكذب لدى الإنسان يتراوح من أربع مرّات في اليوم إلى ثلاث مرّات كل عشر دقائق! ويرى هؤلاء الباحثون أن الكلمات البريئة الدارجة، مثل: “أنا سعيد بلقائك”، “نعم، أحبك طبعاً”، “سأكلِّمك بالهاتف بعد لحظات”، “هذا لذيذ فعلاً”، وغيرها، تندرج ضمن نماذج الكذب؛ وأن الرجال يكذبون أكثر (بمعدّل 1092 مرة سنوياً) قياساً للنساء (728 مرة). وغالباً ما يلجأ الرجل والمرأة إلى الكذب تفادياً للخلافات، فإذا قال الرجل للمرأة مثلاً: “إنكِ لا تُبدين بدينةً في هذا الثوب”، فإنها تجيبه: “نعم، وهو أيضاً ثوب رخيص الثمن اشتريته في موسم التخفيضات”. وقد تبيّن أن (82%) من النساء، مقابل (70%) من الرجال، يشعرن بوخز الضمير بعد التفوّه بخلاف الحقيقة، وعليه توصّل العلماء إلى أن “الكذبة الصغيرة” غدت جزءاً لا ينفصم من الحياة باعتبار أنها “تعين البشر على التواصل الاجتماعي”، فالناس يعتقدون أن الكذب “في خدمة الصالح العام، وبما يجنِّبهم الفضيحة أو الإحراج” أمر “مرغوب، بل هو مطلوب أيضاً!”. يُحضرني في هذا السياق فيلم اسمه “أنا لا أكذب ولكنِّي أتجمّل”، عن قصة للأديب المصري الراحل إحسان عبد القدوس، وقد قام ببطولته أحمد زكي وآثار الحكيم، ويحكي الفيلم قصة شاب جامعي فقير ومتفوِّق في دراسته، لكنه ناقم بشدّة على بيئة الفقر التي يعيشها، حيث يدفعه النفور من وضعه الاجتماعي إلى التظاهر أمام حبيبته الثريّة بأنه ينحدر أيضاً من أسرةٍ ميسورةٍ، لكن كَذِبُهُ ينتهي بكارثةٍ حينما تهجره معشوقته بعد أن تكشّفت لها حقيقته بشكلٍ مفاجئٍ، مع أنه يؤكد لها أن مشاعره نحوها صادقة، وأنه كذِبَ ليحسِّن صورته فقط؛ ويبدو أن الأشخاص الذين امتهنوا الكذب، والضحك على ذقون الآخرين، تنتظرهم هذه الكارثة على أحرّ من الجمر!