الأثر الشرقي ليس فقط في روحانيتي ونسقي الأخلاقي
فيلمي «طفولة أيثان» 1962 أول عمل لفت الأنظار إليّ عالمياً
«طفولة إيثان» حاز على جائزة أفضل فيلم بمهرجان فينيسيا
ابتدعت اتجاهاً سينمائياً مستقلاً ومارسته وطورته حتى آخر حياتي
حاولت تحقيق شيء
في عالم جماليات الإخراج بتيار السينما الشعرية
«التضحية» يتحدث
عن العدم وما يفرزه
من عبث وضياع
«الـتضحية» بوعيه وعقله يتجه إلى عالم الجنون إرادياً ليحتمي به




كتب - علي الشرقاوي:
«لغتي البصرية الرصينة هي الأقرب إلى تصوف الزهاد»، بهذه الكلمات استنطق الشاعر علي الشرقاوي المخرج السينمائي الروسي أندريه تاركوفسكي في حوار متخيل، اعتبر فيه أن تاركوفسكي «شاعر السينما المتميز الذي أضاف الكثير إلى الفن السابع قبل وفاته في 29 ديسمبر 1986».
وحاول تركوفسكي أن يبدع لنفسه اتجاهاً سينمائياً مستقلاً ظل يمارسه ويطوره حتى آخر يوم في حياته الإبداعية والشخصية، وهو يقول إنه حاول أن يحقق شيئاً في عالم جماليات الإخراج الطليعي في تيار السينما الشعرية إلى جانب المخرجين الكبار أمثال بازوليني وبيرغمان.
وكان لهوى تاركوفسكي الشرقي أكبر الأثر في أفلامه بروحانياته ونسقه الأخلاقي، وبلغ تاركوفسكي مكانة لا تضاهي في داخل بلده روسيا وخارجها، ومع ذلك فقد تعرض لمضايقات أعاقته ببعض القرارات الإدارية البيروقراطية التي لا علاقة لها بالتوجه السينمائي الخلاق والإيجابي الذي كان سائداً عموماً في الاتحاد السوفييتي سابقاً.



سموك شاعر السينما المتميز الذي أضاف الكثير إلى الفن السابع لكن في التاسع والعشرين من شهر ديسمبر من عام 1986، تلقت الأوساط السينمائية نبأ فاجعة وفاتك يا سيد اندريه تاركو فسكي.
- أتصور يا ابني أنني عشت ما يكفي من العمر، وبعض الأحيان أرى أنه من الجميل أن تسقط الثمرة وقت نضوجها، لا أن تتعفن في الغصن.
عن نضوج ثمرة الإبداع سوف نتحدث يا سيد اندريه تاركو فسكي هل تأخذنا بعض الوقت إلى عوالمك الأولى؟
- ولدت في الرابع من أبريل عام 1932 ودرست الموسيقى واللغة العربية قبل أن ألتحق بجامعة السينما في موسكو.
كما أشرت يا سيد اندريه تاركو فسكي في حوار: نوفيل كليه - لمجلة؛ المفاتيح الجديدة أو «لي نوفيل كلية» الفرنسية - والذي قامت بترجمته إلى اللغة العربية الكاتبة والروائية المصرية مي التلمساني أنه كان لهواك الشرقي أكبر الأثر في أفلامك؟
- هذا الأثر ليس فقط في روحانيتي ونسقي الأخلاقي وإنما أيضا في لغتي البصرية الرصينة والتي من الممكن أن تقول عنها أنها الأقرب إلى تصوف الزهاد.
وفي أسلوبك الرزين بقسوة الذي جعل منك زميل كفاح لكبار المخرجين الأوروبيين أمثال إنجمار برجمان السويدي أو بيتر جرينواي البريطاني. ولا عجب يا سيد اندريه تاركو فسكي أن يكون عنوان أول أفلامك «القتلة» 1958 وآخرها «القربان» (1986)؟
- المهم عندي من كل هذا أن يكون فيلمي «طفولة أيثان» 1962، أول الأعمال التي لفتت النظر إليّ عالمياً «فقد حاز على جائزة أفضل فيلم من مهرجان فينيسيا».
على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً قدمت عدداً محدوداً من الأفلام تمثل كلها علامات في تاريخ الفن، هل لك أن تحدثنا على الأقل عن عناوين هذه الأفلام؟
- أندريه روبليف (1969) «سولارس» (1973)، و»المرآة « 1875، وهي من إنتاج أمريكي، ثم ستالكر» (1979)، و»نوستالجيا» (1983) من إنتاج روسيا، وأخيراً «القربان» (1986) إنتاج فرنسي، تم تصويره في السويد بمساعدة فريق العمل الخاص لإنجمار برجمان.
يقول د.جواد بشارة «ناقد من العراق يعيش في باريس» إنك اخترت الرحيل الأبدي الذي بدأته عبر شخصياتك وأفلامك باحثاً عن الحقيقة والخلاص، عن التطهير والسمو الروحي. وإنك أيها السينمائي المبدع تشكل ظاهرة فريدة تخرج عن جميع المعايير النقدية والتقويمية المتعارف عليها سواء في السينما الروسية أو في السينما الغربية؟
- حاولت أن أخلق لوحدي اتجاهاً سينمائياً مستقلاً بقيت أمارسه وأطوره حتى آخر يوم في حياتي الإبداعية والشخصية.
عرف بـ»التيار الشعري للسينما الذاتية» وهو تيار له جوانبه ومعاييره الشكلية والمضمونية والجمالية، أليس كذلك؟
- نعم وهذا التيار يحاول أن يتناول المواضيع الكونية التي تهم كل شعوب الأرض وتهم الإنسان أينما كان ومهما كان عرقه وأصله ودينه وثقافته.
أعرف يا سيد اندريه تاركو فسكي أنك قد بلغت مكانة لا تضاهى في داخل بلدك روسيا وخارجها وتمتعت باحترام وتقدير كبيرين.
- يجوز أن المكانة ساعدت عليها مجموعة من الظروف وأهمها في تصوري هو توفر إمكانيات لم تتوافر لأي سينمائي غيري من جيله فيما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي.
لكنك حزت في أول تجاربك السينمائية -وهو فيلم التخرج- على ثقة القائمين على عالم السينما من فنيين وإداريين، كما تمكن من كسب ثقة مطلقة من جانب العاملين في قطاع السينما في كل مكان؟
- لا تنس المضايقات التي أعاقتني ببعض القرارات الإدارية البيروقراطية التي لا علاقة لها بالتوجه السينمائي الخلاق والإيجابي الذي كان سائداً عموماً في الاتحاد السوفيتي سابقاً.
وعلى الرغم من ذلك ونظراً لحساسيتك الفائقة وتوقك للحرية المطلقة، دفعك هذا الموقف الإداري المزعج إلى الغربة القاسية واقتلعك من جذور الإبداع الراسخة في أعماقك والمعجونة في صميم عروقك؟
- لذا هاجرت منفياً إلى الغرب المادي لأخرج آخر أفلامي قبل أن أودع هذه الأرض.
كما عرفت يا سيد اندريه تاركو فسكي. كان أول توجهك إلى إيطاليا حيث أخرجت فيلمك الخارق «الحنين» وهو رائعة وتحفة سينمائية تتحدث عن حنين وغربة الفنان الروسي المنفي الممزوجة بحب الأرض والوطن الجارف؟
- خصوصاً عندما يكون هذا الكائن المفرط الحساسية منفياً رغماً عنه، أيام ديكتاتورية حكم القياصرة، وذلك من خلال الربط بين هاهي الإنسان المنفي وهو شاعر كبير، وبين حاضر إنسان روسي معاصر يقتفي آثاره وهو بدوره فنان وموسيقي يعد دراسة عن الشاعر المذكور في محاولة لإعادة الاعتبار إليه وترسيخ مكانته وقيمته كفنان مخلص لإنقاذ ما تبقى منه، أي ذكراه، من جوف العالم المتدني حيث تنطلق صرخة الاحتجاج من قلب الغابة الغريبة المتوحشة التي تأكل الإنسان وتسلبه إنسانيته كل يوم (مشهد الفيلسوف المجنون الذي يحرق نفسه في إحدى ساحات روما احتجاجا وعلى أنغام سيمفونية بيتهوفن التاسعة).
ثم يأتي فيلمك الأخير في الغربة هو فيلم «التضحية» الذي أخرجته عام 1986، أي قبل وفاتك بأشهر قليلة، في السويد. وكما كان منتظراً من مخرج سينمائي عملاق مثلك جاء فيلمك قفزة نوعية جديدة في عالم الإبداع؟
- حاولت أن أحقق شيئاً في عالم جماليات الإخراج الطليعي في تيارالسينما الشعرية إلى جانب المخرجين الكبار أمثال بازوليني وبيرغمان وراوول رويز والان تانر وغيرهم.
هل تقول لنا عما يتحدث فيلم التضحية؟
- يتحدث «التضحية» عن كل شيء وعن اللاشيء ، عن الوجود وما قبل الوجود وما بعده عن معناه وسره ، عن العدم وما يفرزه من عبث وضياع وبحث عن المجهول بلا جدوى وعما يقف فيما وراء الطبيعة متخذا شكل الإيمان أو الخرافة.
إنه قصيدة للإنسان عن الإنسان عن معنى وهدف وجوده في هذه الحياة الغامضة. كل شيء في الفيلم قائم بذاته، متكامل التكوين والتنفيذ؟
- لم أترك شيئاً للصدفة كل شيء متناسق ومتناغم، الصوت والصورة والألوان، الزمان والمكان والتكوين والأشياء والفراغات والكتل الحركة والسكون السرعة والإيقاع، السكون والضوضاء، الصمت.
الصمت هو المناخ السائد في هذا الفيلم المعجزة اعني فيلم (التضحية) أليس كذلك يا سيد اندريه تاركو فسكي؟
- لقد جاء الفيلم تكريماً لسينمائي خلاق آخر هو انجمار بيرغمان الذي كان وراء إنتاجه بهذه الصورة.
يذكرنا فيلم (التضحية) برائعتك وتحفتك الخالدة «الصمت» لقد قال بيرجمان عن فيلم «التضحية» قبل عرضه التجاري «لقد صنع تاركو فسكي ما كنت أحلم بصنعه طيلة تاريخي الفني بأسره ولم أفلح، إنه أعظم فيلم لم يخرجه بيرغمان بعد». هل ندخل معك في الفيلم الذي لا يمكننا تلخيص أحداثه؟
- تدور أحداث فيلم (التضحية) في مكان بعيد مقفر وموحش لكنه جميل وساحر باعتباره قطعة من الطبيعة النقية المنعزلة والبعيدة عن الملوث «الحضاري».
يعيش هناك الكسندر، الممثل سابقاً والكاتب والمفكر حالياً، مع طفله الصغير الذي يسميه طيلة الفيلم «الصبي» دون أن يذكر اسمه.
- والصبي المذكور أبكم لا ينطق بكلمة واحدة طيلة أحداث الفيلم إلا في نهايته حين وقف قرب الشجرة التي زرعها مع والده في بداية الفيلم، وهو يردد جملة والده الفلسفية التي وردت في الكتاب المقدس «في البدء كانت الكلمة».
يبدأ الفيلم بلقطة بارعة الجمال بتكوينها ودقة تنفيذها وبراعة تصميمها والمدة التي تستغرقها على الشاشة، حيث يبدو الكسندر وطفله الصغير من بعيد وهما يغرسان شجرة يابانية نادرة والأب يروي للصبي حكاية فلسفية من التراث الياباني.
- بعد قليل تدخل إلى الكادر شخصية أخرى غريبة الأطوار هي شخصية ساعي البريد الذي يمزح معهما ومع الطفل خاصة ، ويتحدث بكلام غير مفهوم أو مترابط
حيث يستمر بذلك عبر جميع مشاهد الفيلم الغامضة إلى جانب بقية شخصيات الفيلم -أفراد عائلة الكسندر- هل هم رموز؟
- نعم كل واحد منهم يرمز إلى واقع أو إلى فئة من الناس أو ناحية من نواحي المعضلة الكبرى التي تتلخص بجملة واحدة (ما هو الإنسان والى أين يسير؟)
يقوم الكسندر في نهاية الفيلم، بعد وقوع «الكارثة» التي نسمعها ولا نراها -قد تكون انفجاراً نووياً أو زلزالاً كونياً-، بحرق بيته، والـ»تضحية» بوعيه وعقله يتجه إلى عالم الجنون إرادياَ ليحتمي به من كل ما يجري في عالم الواقع أو بين الحلم والواقع ، وبين الخيال والحقيقة ، إذ لا يمكن الفصل بينهما البتة.
ذلك يذكرنا بالفكرة الرائعة التي قالها فردريك انجلز بشأن الفن.
- قال انجلز: «يكون الأثر الفني ذا مستوى رفيع عندما تكون الفكرة والرسالة التي عبر عنها ويريد إيصالها مدفونة في أعمق الأعماق، حيث من الأفضل أن تكون مخفية يكتشفها المتلقي بدلامن أن تكون مباشرة وواضحة تثير نفوره»... وهذا هو المبدأ الذي يقودني في اختياري لأسلوبي السينمائي ولبناء عالمي الفني.
ما الذي يثيرنا أو يقلقنا أو يستهوينا ويهمنا في فيلمك الأخير كما هو الحال في بقية أفلامك الأخرى؟ هل هو استمرار المؤلف – الفنان ، الاستثنائي في طريقه السينمائي الفريد والمتميز؟ هل هو ذلك الإصرار الواثق على تأكيد ظاهرة تاركو فسكي وابتكاره لتيار السينما الذاتية – الشاعري التي عرفت بمفرداتها التعبيرية الخاصة على صعيدي الشكل والمضمون؟
- لماذا لا تقول هو الاستمرار في إيصال رسالتي السامية إلى الإنسانية كلها وبحثي الدائم عن الجوانب الروحية والجوانب الخفية والمجهولة لعالم يفزره الشر، وتسيطر عليه المادة ويسير من سيئ إلى أسوأ، ليصل بالبشرية إلى حافة الكارثة والخواء، ومواجهتي بلا كلل ولا تعب لعالم غارق في القيم المادية والمنفعية البحتة والمجبول بالأنانية الفردية.
لا أنكر يا سيد اندريه تاركو فسكي أن أسلوبك الذي يستحيل تقليده حتى بوجود التنويعات الظاهرية في مضامين أفلامك؟ هذا الأسلوب هو ما يوقفني طويلاً.
- هل تعني استبدال اللقطات الكبيرة والمقربة التي طبعت مرحلتي الإبداعية الأولى من حياتي السينمائية؟
نعم تلك التي وسمت بها أفلامك الروسية يا سيد اندريه تاركو فسكي. والتي أتحفتنا فيها بروائع وتحف من أمثال «سولاريس « وميلك إلى استخدام أكبر عدد من اللقطات العامة والبعيدة جدا؟ لا اعرف حتى هذه ما الذي يشدنا في أفلامك؟
- عليك توجيه مثل هذا السؤال إلى النقاد.
وشيء آخر نحسه ولا نعرفه أو لا نستطيع صياغته لغوياً أو التعبير عنه مادياً، شيء ما تتسم به جميع أفلامك يمكننا أن نسميه بـ»نفس تاركو فسكي». هل هي لقطاتك يا سيد اندريه تاركو فسكي.
- الواقع أن لقطاتي طويلة زمنياً، خصوصاً إذا كانت مأخوذة من زوايا غريبة وشاذة، أو تكون بعيدة وعامة لتتيح للمتفرج الوقت الكاف للتمعن في محتوياته وجمال تكويناتها البلاستيكية.
تبدأ لقطاتك عادة ساكنة يا سيد اندريه تاركو فسكي. ثم تتخللها حركات ترافلنج (ميكانيكي أو بصري، أو الاثنان معاً ويتزامن خلاق) جانبية أو أفقية أو عميقة (انقضاضية أو ارتدادية) كاللقطة التي ختمت فيلمك «التضحية».
- حاولت أن أترك الكاميرا تتابع بإصرار ودقة شديدتين الكسندر في قمة لحظاته النفسية المتوترة إبان توغله في عالم الجنون حارقاً بيته إلى أن أخذته سيارة الإسعاف.
هل يمثل ذلك يا سيد اندريه تاركو فسكي، وسيلة للتعبير عن حالة البحث الدائم عن الحقيقة المطلقة المختفية في أعماق الكائن البشري؟
- ربما في كلامك شيء من الصحة، فهنا لا يكون للسينما دور سوى الكشف عن العالمين (الخارجي والداخلي) للإنسان وهو في حالة عري تام، حيث يتكفل الفنان بمهمة التعرية لهذا الكيان بأكمله قبل أن ينظر إليه باعتباره واقعاً مباشراَ لا سبيل لسبر أغواره، حيث تحل عين السينمائي - الرجل محل نظرة إنسان الحياة اليومية؟
مهما بدا ذلك غريباً، يبدو أن الذين يعشقون أفلامك، يحبون أيضاً أفلام ستيفن سبيلبرج، الذي يبهره هو أيضاً عالم الأطفال، هل شاهدت أفلامه وما رأيك فيها؟
- بطرحك هذا السؤال تبين عدم معرفتك.. سبيلبرج وتاركو فسكي يتشابهان في نظرك. خطأ! هناك نوعان من السينمائيين: النوع الأول يعتبر السينما فناً ويطرح تساؤلات شخصية، يرى السينما معاناة وهبة، واضطراراً. الآخرون يرونها وسيلة لربح المال، تلك هي السينما التجارية: مثلاً فيلم E.T حكاية مدروسة ومصورة سينمائياً بهدف نيل إعجاب أكبر قدر من الناس. لقد بلغ سبيلبرج هدفه بذلك فهنيئاً له.