^ من النتائج الكارثية المباشرة لتعميم الثقافة الطائفية، بديلاً عن وحدة المواطنة، إضعاف الرابط الوطني كجامع أساسي مشترك، لصالح أولوية الطائفة والمذهب الذي تحول إبان الأزمة إلى العصب المشترك الأول بين المنتمين إليه. كما أفضى النظر إلى الوطن ومصلحته من منطلق مصلحة الطائفة وزعاماتها ومصالحها الضيقة إلى تراجع النظر إلى المصلحة العامة، وتقلص النقاش حول المجال العام بشكل مخيف. كما أدى تعدد مصالح الطوائف وتناقضها مع بعضها البعض إلى إضعاف وحدة الشعب والبلاد، بما يدفع بعض هذه القيادات الطائفية إلى عدم التورع عن الاستقواء بالخارج في مواجهة خصومها الداخليين، فأدى استدراج هذا التدخل إلى تحويل الوطن إلى ساحة تصادم للتأثير الإقليمي والدولي. إن الإيديولوجية الطائفية المغروسة في المجتمع منذ زمان بعيد قد شهدت تطوراً دراماتيكياً خلال العقود الثلاثة الماضية مع صعود الطائفية كإيدولوجيا – على الصعيد الإقليمي في ظل الصراع مع إيران الخومينية-على نقيض الفكر اليساري والفكر القومي، قد اتخذت طابعاً سياسياً مع تطور الدولة ونموها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولذلك تبدو فيه هذه الإيديولوجية الطائفية مستولية على المجال العام: على الحراك السياسي وعلى الخطاب الإعلامي، بل وعلى التحالفات والمواقف والخيارات، وهو تطور غير مسبوق في فجاجته المقززة، إذ كان المجتمع قبل الأزمة الأخيرة التي شهدتها البحرين ينظر إلى الشأن العام ضمن منظورين: الأول: ضمن الأفق الوطني بالدرجة الأولى(سواء بالنسبة للمعارضة أو بالنسبة للتيارات الأخرى)، لأنّ الوطن يفتح آفاقاً جديدة للاندماج وللترقي وللتطور الاجتماعي على أساس الديمقراطية الوطنية، خصوصاً في ظل المشروع الإصلاحي. الثاني: ضمن منظور يتمركز حول الطائفة، وهو يتفاوت من طائفة إلى أخرى، وبحسب السياق الثقافي وحجم ومستوى تأثير رجال الدين المشتغلين على المحافظة على البنية الطائفية وعلى نمو وازدهار الصناعة الطائفية المربحة بالنسبة إليهم. وكان الصراع بين المنظورين مستمراً ومتداخلاً قد يتقدم في جانب ويتأخر في الجانب الثاني، بحسب الحالة السياسية العامة للبلاد، وبحسب تأثير النشاطات والتدخلات الإقليمية بوجه خاص، ولكن بعد الأزمة انحصر المجال الوطني لصالح المجال الطائفي بشكل واضح وملموس، بما أدى إلى انحصار الآفاق والتي بقيت موجودة فقط لدى بعض الأحزاب أو التيارات أو القوى والنخب الفكرية المستنيرة. إن الإيدولوجيا الطائفية تنهض اليوم على أساس فبركات وصناعات وقصص وذكريات وصور مستجلبة من أعماق التاريخ للإثارة والتحشيد، وتبلغ مدى من العمق والشمولية بحيث تؤثر بشكل مدمر على العلاقات الاجتماعية بين مكونات المجتمع الواحد، خصوصاً عندما يضيق مجال العقل ويضعف تأثيره، مثل الاعتقاد بإمكانية تحقيق الديمقراطية في مجتمع تتساوى فيه الطوائف( كما يطرح البعض)، لأن الديمقراطية لا تتحقق إلا في مجتمع يتساوى فيه أفراده أمام القانون، والشرط الضروري لهذه المساواة هو إلغاء الطائفية وإلغاء أي نوع آخر من الامتيازات فوق وطنية، بما يعني إلغاء سلطة رجال الدين المنكبين على حفظ المنظومة الطائفية، ليتحرر الفرد ويبني خياراته على أساس وطني وفردي. إذ لا يعقل ولا يقبل في المجتمع الديمقراطي النظر إلى الفرد كعضو في الطائفة، بل يكون انتماؤه للدولة (الوطن) مباشرة بدون الحاجة إلى وسيط، خصوصاً أن التنظيم الطائفي يستند إلى المجال الديني الجماعي، ليجعل كل من يخالف الأفكار والعادات والتقاليد السائدة خارجاً أو حتى كافراً في نظر القيمين على إدارة الشؤون الطائفية الذين لديهم مصالح وامتيازات يبذلون الجهد للحفاظ عليها، فيتم ترهيب الفرد الذي يختار طريقه عن فكر ووعي في المجالين السياسي والاجتماعي. إن النظام المدني الديمقراطي الذي يرفع من شأن الحرية والحق في الاختلاف هو وحده القادر على صنع الديمقراطية، لأنه يفسح المجال أمام صراع الأفكار والاتجاهات السياسية بشكل سلمي يقوم على الحوار والقبول بحق الاختلاف. في حين أن الطائفية تضع الفرد في إطار التزام جماعي مغلق( حياة أو موت- مؤمنين وغير مؤمنين...) فتقمعه وتمنع نموه وتطوره. ولذلك، فالطائفية لا يمكنها مطلقاً أن تصنع الديمقراطية ولا يمكنها بالتالي أن تبني دولة مدنية بالمعنى الصحيح.
970x90
{{ article.article_title }}
970x90