كتب - طارق مصباح: حذر رجال دين من اتخاذ النصيحة لولاة الأمر عبر المنابر سيفاً لتحقيق مصالح شخصية بحتة يُهدد بها المنصوح، داعين إلى تقديم النصح لهم فيما يخالف شرع الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. وأكدوا دور الدعاة في بيان الحق برحمة الخلق، والسعي نحو جمع الناس على كلمة الحق، وإبعادهم عن الفتن ما ظهر منها وما بطن. وذكر عضو مجلس إدارة الأوقاف السنية د. راشد بن محمد الهاجري، أن النصيحة خُلق رفيع ودعامة أساسية في عبادة الأمر والنهي التي يتصف بها المؤمنون والمؤمنات وقال تعالى “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”، واستشهد بما جاء التأكيد عليه في قول النبي صلى الله عليه وسلم “إن الدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”. وناشد خطيب جامع الجمعية الإسلامية د. موفق بن عبدالرزاق الدليمي، رجال الدعوة ومن يرتقي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدم النيل والتجريح بولاة الأمر، وذكرهم بقول الإمام أحمد بن حنبل “لو كانت لي دعوة مستجابة لادخرتها للسلطان”. ودعا إلى عدم الانشغال في اصطياد الهفوات أو الترجيح في المسائل التي تحتمل عدة وجوه يتخذها الحاكم، وأن يجنبوا منبر رسول الله هذه الأمور، وأن يعملوا بنهج النبي عليه الصلاة والسلام. وأكد الدليمي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج الخطأ بالنصح على المنبر دون تشهير، وأنه إذا شخَّصَ فإنه لا يصرح بالأشخاص. النصيحة معاونة على الحق وقال د. راشد الهاجري “من المعلوم أن للنصيحة ضوابط لابد من التقيد بها، تزيد وتنقص تتسع وتضيق بناء على حال الناصح والمنصوح”، وذكر قول الإمام النووي “النصيحة لازمة على قدر الطاقة، إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة”. وحول معنى الحديث قال خطيب جامع فاطمة بمدينة عيسى الشيخ فايز بن حسين الصلاح، إن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم، قال العلماء “النصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به”. وأضاف أن الناس في نصيحة الحكام طرفان ووسط، طرف يغلو بالهجوم على الحكام في المجالس وعلى المنابر، وهذا يخالف منهج السلف في الإنكار ثم هو لا ينشر بين الناس إلا الفتن والأحقاد، ولا يحقق الغاية المرجوة، وطرف يجفو، يمدح الحكام بما ليس فيهم، ويزين لهم الباطل ولا يبين لهم الحق، وهؤلاء هم المنافقون الغاشون للحاكم أولاً ثم للأمة ثانياً. الإنسان معرض للخطأ لا شك أن الإسلام - كمنهج حياة - حدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وجعل أساسها المودة والطاعة، ويتحدث د. موفق عبدالرزاق الدليمي عن هذه العلاقة مبتدئاً بقول الحق سبحانه وتعالى “يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”، وقال: إن طاعة ولي الأمر قضية مهمة ناشدت بها الشريعة الإسلامية المجتمعات، لكي يتم عبرها التواصل والاستقرار لتحقيق المجتمع المنشود الذي تصبوا إليه. واستطرد الدليمي “علماً أن الإسلام لم يجعل العصمة لأحد من الناس إلا الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فكل ابن آدم خطاء ومعرضون للخطأ، كما أن كل الناس يحتاج بعضهم للبعض الآخر، سيما في قضية النصح والتناصح وإيصال الفكرة لمن لهم القرار لإسعاد المجتمعات”. الأطر السلفية للنصيحة قبل الشروع في بيان هذه الضوابط لا بد من تحديد الأطر التي سار عليها السلف الصالح في موضوع النصيحة، وبين الشيخ فايز الصلاح هذه الأطر، وقالاً إن أمور الناس لا يمكن أن تستقيم إلا باجتماع، وهذا الاجتماع لا بد فيه من رئيس ومرؤوس، رئيس يأمر بالعدل، ومرؤوس يطيع بالمعروف، وأعلى مناصب الرئاسة في المجتمع الإسلامي هو من يقوم على شؤون الأمة كالخليفة والملك والأمير والسلطان والرئيس. وأضاف أن كل هؤلاء لهم حقوق وعليهم واجبات، فالواجب على الحكام الذين ولاهم الله أمور الأمة، أن يحكموا بين الناس بالعدل، ويقوموا على شؤون الناس الدينية والدنيوية، فالحاكم وظيفته في شرعنا أن يحفظ للناس دينهم فلا يكون في المجتمع ما يخالف العقيدة والشرع، ويحفظ للناس دنياهم بأن يوفر لهم الحياة الكريمة من مسكن ومطعم وملبس، ويوفر لهم الحياة الآمنة، فهذه واجبات الراعي، وفي المقابل له من الحقوق على رعيته طاعته بالمعروف، وإعانته على الحق ونصيحته، والنصيحة للحاكم من أعظم واجبات الرعية وحقوق الراعي، والأصل في هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم “إِن الدِّينَ النصيحة، قلنا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأَئمَّة المسلمين وعامَّتهم”. واتفق الدليمي مع ما تناوله الصلاح، داعياً ولي أمر المسلمين أن يسمع وأن يستشير وأن يتخذ ما يراه مناسباً ضمن شريعة الإسلام، والرعية لهم الحق في بيان آرائهم وإيصال أصواتهم لأئمتهم وقادتهم. عندما تكون النصيحة سيفاً وذكر الهاجري بعض هذه الضوابط العامة في تقديم النصيحة، وهي أن تبذل النصيحة لوجه الله وابتغاء الأجر منه لا رغبة في مدح و ثناء من الناس ولا تلذذاً بسماع أصوات صفيرهم وتصفيقهم وهتافهم ـ خاصة في النصيحة التي تكون في العلن ـ فتستهوي الناصح نظرات الإعجاب من الجماهير فيتقمص دور البطولة والزعامة والقيادة مما يقوده إلى التهور، وربما جعل من النصيحة سيفاً يهدد به المنصوح أياً كانت مكانته، بل لعله يتخذ من النصيحة للولاة سلماً يساوم به لتحقيق مصالح شخصية بحتة، مستشهداً بقول الله سبحانه وتعالى “فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا”. وأكد الهاجري ضرورة ألا تكون النصيحة أداة للتعيير والشماتة وإظهار معايب المنصوح على الملأ تشفياً وانتقاماً، أو بقصد الانتقاص وإذهاب هيبة المنصوح كالعلماء والولاة، يقول الفضيل “المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير”. وفي ذات الشأن دعا الدليمي الدعاة والخطباء إلى ضرورة أن تكون النصيحة للنصح ذاته ولخدمة المجتمع، ولا ينبغي أن تكون للتشهير. وأكد أن أهل العلم شددوا على ضرورة أن تكون النصيحة على انفراد فيما بين الناس بعضهم للبعض الآخر، متسائلاً “كيف إذا كان النصح بين الراعي والرعية؟” واستشهد بقول الشاعر: تعمدني النصيحة بانفرادِ وجنبني النصيحة في الجماعة النصيحة بين السر والعلن ربما يسأل سائل “هل تكون النصيحة لولاة الأمر في السر أم في العلن؟”، ويقول الهاجري يجب ألا يترتب على النصيحة مفاسد وشرور، لقول ابن القيم “ومن دقيق الفطنة أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ وذلك خطأ ثان، ولكن تلطف في إعلامه به، حيث لا يشعر به غيره”. وقال: يجب أن تكون النصيحة ـ ابتداءً - في السرّ فإنّ ذلك أدعى عند المنصوح لقبول النصيحة، وقيل “من وعظ أخاه سرّاً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”، ويتأكد هذا الضابط مع الولاة والحكام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه”. وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين “فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وألا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يُحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يُحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها، فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن، لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم، وحصل الشر والفساد”. نهج السلف منجاة وخير ودعا الشيخ فايز الصلاح إلى السير على منهج الوسطية التي كان عليها السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وقال إن الوسط الذي عليه منهج السلف أن يجمع الداعية الناس على الشرع والحاكم المسلم، وينهى عن الخروج عليهم ويحذر الناس من المنكرات العامة. وقال إن الداعية إذا جلس مع الحاكم ثبتَّه على ما فعل من الحق، ونصحه بما خالف فيه الشرع بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، مؤكداً أن هؤلاء الدعاة يكونون بذلك جمعوا بين بيان الحق ورحمة الخلق، وجمع الناس على الحق، وإبعادهم عن الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأضاف الدليمي “إننا اليوم بحاجة إلى الالتفاف مع ولي الأمر على الحق وإلى مناصحته بانفراد حتى تسير مركبتنا التي نركبها جميعاً عبر طريق الخير إلى بر الأمان”، داعياً الله تعالى أن يحفظ ويصلح الراعي والرعية في البحرين.