^   قبل أن تلتقط أنفاسك كي تستعيد السيطرة على نفسك وتغادر حالة الانبهار والتقدير من مظاهر الحفاوة التي يغمرك بها رئيس تحرير صحيفة (الرؤية) العماينة حاتم الطائي، والتي تبدأ بتحوله بعد استقباله لك في مطار مسقط الدولي إلى دليل سياحي يتمسك بتقاليد التواضع العمانية، فيأخذك في جولة سريعة هي في جوهرها قراءة مكثفة لتاريخ عمان السياسي، تتداخل فيها مشاعر الفخر الخفية بحقائق ذلك التاريخ، مع حرص المثقف العماني على عدم تجاوز الدائرة الموضوعية التي تنم عن خلفية حضارية راقية، تشجع من يخاطبه على المشاركة العفوية في نسج وبناء معالم ذلك التاريخ، يتلقفك كتّاب صفحة الرأي في جريدة (الرؤية) العمانية بمداخلاتهم في الليلة الحوارية التي احتضنتها فيهم (الرؤية) لتكريمهم من جهة، وبناء علاقة أوثق معهم وأكثر حميمية فيما بينهم من جهة ثانية. كانت النقاشات التي تمحورت حول عنوان اللقاء الذي انصب على “حرية الكاتب في علاقته مع نفسه وصدقه مع قرائه” مثرية، ولفتت النظر إلى الكثير من المشكلات التي تواجه العديد من كتّاب الأعمدة في الصحف العربية، فقد حرص حملة القلم من كتّاب (الرؤية) ممن شاركوا في ذلك اللقاء على الاحتفاظ بهدوئهم والتقيد بأدب الحوار والاختلاف فيما بينهم، دون أن يكون ذلك على حساب غنى القضايا التي أثاروها، والتي بدأت بالإشارة إلى مقص الرقيب الذي بات بحوزة بعض رؤساء تحرير الصحف العربية، دون التوقف عند جدار الحجب السميك الذي يقف وراءه الرقيب العربي، والذي نصّب نفسه حكماً يحق له السماح بما يصلح لأن ينشر وحظر ما يراه غير مناسب عن ضحاياه من القراء العرب. كان الحوار هادئاً وغنياً في آن، لكن ذلك لم يكن يمنع من إثارته صخباً عالياً في ذهن من شاركوا في ذلك اللقاء، وكنت من بينهم، بعد انتهاء الجلسة وعودة كل منا إلى مأواه. أثار ذلك الصخب ودون قرار مسبق تزاحم القضايا التي سلطت الأضواء عليها مداخلات كتّاب (الرؤية)، الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، من شباب متحمسين وشيوخ مجربين أتوا من مناطق عمان المختلفة. أول عناصر الصخب الذاتي الداخلي التي أثارها ذلك الحوار الهادئ الرزين، بعد انتهائه، هو محاولة البحث عن جواب لمقاييس الحكم المطبقة التي تجيز نشر مادة صحافية أو تبرر حجبها، والتي ما تزال في بلادنا العربية أسيرة قرار ذاتي يتفرد باتخاذه أشخاص أوكلت لهم مهمة “الرقابة الإعلانية”، وهم أبعد ما يكونون عنها ومن ثم عن الفكر أو الثقافة، بل وتتحكم في سلوك البعض منهم عقد نفسية تراكمت عبر سنوات من الفشل في مختلف نواحي الحياة التي عاشها من يمارس تلك الوظيفة وتفاعلت مع أخرى غيرها، كي يتولد عنها قرارات جائرة، أدت، في نهاية الأمر إلى “خصي” الكاتب، وتجهيل القارئ، دونما ذنب ارتكبه أي منهما، سوى رغبة الأول في إرسال السمين بدل الغث من الفكر، وترقب الثاني كي يتلقى ما يتوخاه من مادة تشحذ الفكر، وتغني الذاكرة. ثاني تلك العناصر، وهي الأخطر، والأشد صخباً، هو اتساع نطاق الرقابة على ما يكتب، كي يشمل، بالإضافة إلى الرقيب الرسمي العربي، بعض رؤساء التحرير وأصحاب القرار في المؤسسات الإعلامية العربية، الذين باتوا يمارسون نمطاً قاسياً من الحظر أسوأ من ذلك الذي كان يقوم به الرقيب الرسمي ذاته، الذي ربما يشفع له ما يقوم به كونه يتقاضى مرتباً لقاء ما يمارسه من “قمع فكري”، في حين يفترض في الأول، وهو رئيس التحرير، أن يمارس دوراً تنويرياً، عوضاً عن ذلك التجهيلي الذي أصبح أسيراً له، وغير قادر على التخلص منه، أدرك ذلك أم لم يدرك. ثالث تلك العناصر، وهو الأكثر فعالية، هو تحول الخوف من مقص الرقيب، إلى آلة رقابة ذاتية، باتت تمارسها نسبة لا ينبغي الاستهانة بها من الكتاب العرب، حينما يراعون، وبحذر شديد غير مبرر، ما يمكن أن يثير حفيظة أصحاب المؤسسات الإعلامية العربية، ومن بينهم ملاك الصحف اليومية. هذه الرقابة الذاتية ضررها في غاية الخطورة، ولها طابع تراكمي، إذ إنها تتنامى، كي تتحول بشكل تدريجي إلى جرثومة داخلية تنتشر في ذهن الكاتب الصحافي، وتزرع الخوف الذاتي في صلب تفكيره، فينحرف إنتاجه، رويداً رويداً، ودون أن يلحظ هو ذلك التحول، إلى حالة قريبة مما كان يقرضه “شعراء البلاط”، الذين كان همهم الأكبر حجم كيس الدنانير الذي سينفحهم به السلطان، والذي تفوق حينها على جهودهم في التفكير في مكونات ما يقولونه أو محتواه. رابع تلك العناصر، هي النتيجة التي تولدت عن تفاعل تلك العوامل الرقابية مجتمعة، وتضافر جهودها في اتجاه سلبي، قاد في نهاية المطاف إلى بناء ذهنية خاملة لدى القارئ العربي، الذي لم يعد يأبه لما تقذف به المطابع العربية، وتحول، وبسلبية خطيرة، إلى الإنتاج الفكري الأجنبي، الذي يجد فيه مادة خصبة أكثر غنىً وموضوعية وتخاطب عقله، وتسد حاجاته. يزداد الأمر سوءاً عندما ندرك أن مجتمع القراء “الخامل عربياً” والمتفتح أجنبياً، آخذ في الاتساع الأفقي، والنمو العمودي، بفضل انتشار اللغات الأجنبية، وعلى وجه الخصوص منها الإنجليزية، بفضل تطور التعليم من جهة وزيادة عدد المدارس الخاصة من جهة ثانية. محصلة هذا التطور الذاتي لدى القارئ العربي، هو تراجع موضوعي في الإنتاج الفكري العربي لصالح الأجنبي، الأمر الذي ينذر بتخلف الأول لصالح الثاني. هذا الصخب، الذي نتحدث عنه، والذي تلى اللقاء، كان من النوع الهادئ، البعيد عن المهاترات التي عهدها البعض منا، لكنه القريب، إلى حد بعيد من الشخصية العمانية البعيدة عن الانفعال، والتي، كما أشرت، تجلت في الحوارات التي سادت ذلك اللقاء، لكنها، لم تمنع من علو وتيرته لاحقاً، كي يتحول إلى حالة صاخبة إيجابية، لم يكن في الوسع السكوت عليها أو إخفائها، لكوننا اليوم في أمس الحاجة إلى حوار علني صريح مع الذات، وشفاف فيما بيننا، نستعين به على الخروج من الأزمة الفكرية التي نعاني منها، والتي ليس هناك من مؤشر أكثر دلالة على سوء واقعها، من التداعيات التي تمخضت عنها الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية خلال العام والنص الماضيين. الصخب الذي نشير إليه، ينبغي أن يتمتع بمواصفات إيجابية، تحميه من المزايدات التي نخشى عليه منها، والتي غالباً ما تسيطر على سلوك مثيريه، فينحرف عن مساره من الإيجابي المتوخى، كي يلج الطرق السلبية الملتوية التي نحذر منها