توفي "ملك العود" بتاريخ 26 ديسمبر 1974 وقد حاز لقبه الثمين هذا، في تركيا، بعد مؤتمر للموسيقى الشرقية نال فيه جائزة أحسن عازف على آلة العود. ولم يكن إنجازه سهلا على الإطلاق، فبالإضافة إلى منافسة حامية من عازفين أتراك اشتهروا باللعب على أوتار "البُزُق" ونقلوا حرفتهم إلى آلة العود، فتحولوا "شياطين" تعزف على تلك الآلة الشرقية التي لا يخرج من خشبها الرقيق سوى نغمة الحزن والتذكر، فهناك منافسون من مختلف أرجاء الشرق والمشرق. ورغم ذلك، خرج فريد الأطرش من بينهم، ملِكاً للعود.
كُرّم الملك بما لم يكرّم به أحدٌ من قبله ولا بعده، وهو سليل أسرة أمراء الجبل في السويداء السورية. فقُلِّد "وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب" و"وسام الاستحقاق المصري" ووسام "الكوكب الأردني" و"قلادة النيل" ووسام "الأرز الوطني اللبناني" وحصل على "ميدالية الخلود" الفرنسية، وسواها الكثير طبعاً، كما أن الوسام الذي قلّد به من مصر، سبق به عبد الحليم نفسه، ودارت بينهما ملاطفات عاتبة على الشاشات لأن العندليب لم يهنئ الأطرش بالوسام.
إلا أن "ملك العود" كانت أثمن الجوائز التي اقتربت شيئاً ما من موهبة ذلك الرجل الحزين حتى وهو يلهو أو يلحّن "الطقطوقة" كما في أغنية صباح "يادلع دلع" التي أهداها إياها، إلا أنها ما استطاعت إخفاء حزنه المتواصل، على الرغم من أنها أغنية "دلع" وبهجة وكانت تنتمي في وقتها إلى ما يتعارف عليه بـ"الطقطوقة" وهو الاصطلاح الذي يعني الأغنية السهلة والخفيفة في سوريا ولبنان، إلا أن الأغنية استمرت، وقد غناها كثير من المطربات والمطربين. وقامت المطربة السورية "أصالة نصري" بأداء تلك الأغنية مبدية احترامها الذي يليق بملحنها في أحد البرامج.
يعرف عنه أنه لا يحب غناء الألحان التي يلحنها لغيره، ولا الأغاني التي هي لمطربين سواه. ويستثنى من ذلك أغنية واحدة فقط لمحمد عبد الوهاب، غنّاها نزولاً عند رغبة صديق مشترك وعده بعدم إذاعة التسجيل وأنه لن يسمح بنشره مطلقاً. وقال الأطرش إن هذا الصديق المشترك كان وفياً بوعده، فاحتفظ بالتسجيل في مكتبته الخاصة، ولم يعلنه للجمهور.
وأكثر ما أبعد فريد الأطرش، عن الأجيال الجديدة، هو حزنه الشديد في أغانيه. إذ لم يحتمل الجيل الجديد تلك النغمة الحزينة المتواصلة في صوته وألحانه، فانصرفوا إلى آخرين، أقل حزناً. وربما يكون هذا هو السبب الذي جعل من أغنيته التي لحّنها لصباح "يادلع دلع" تستمر وتتواصل، لأنها لم تعكس شخصه الحزين بالكامل، إلا أنها لم تخل منه بالكامل أيضاً!
استطاع العندليب عبد الحليم حافظ، أن يأخذ من جمهوره الكثير، وتعرف أدبيات تلك المرحلة نوعاً من التنافس لم يكن في صالح الملِك. وكان العندليب يقول مازحاً عن الأطرش "جدّي" أي أنه يكبره في السن كثيراً، وبالتالي هو "دقة قديمة".
وفي الواقع كان عبد الحليم أكثر تواصلاً مع الأجيال، وكان الفارق الأشهر بينهما، أن الأطرش لديه "الحزن" أما العندليب لديه "الشَّجن" والفارق بينهما جذري للغاية. وهكذا ابتعدت الأجيال الجديدة، ولا زالت، عن حزن الأطرش، إلا أنها بقيت لصيقة بـ"شجن" العندليب. لأن الحزن مرهق للروح، وفي حياتنا منه الكثير، وأسبابه أكثر من أن تحصى!
لكن الملك يظل ملكاً. فلم يحز اللقب هذا، واحدٌ مثله. والحزن الذي أبعد أجيالاً عنه، هو نفسه الذي قرّب أجيالا أخرى منه، فهو مطرب الآباء والأجداد، وهو مطرب ذوي النوستالجيا الذين لا يتوقفون عن استعادة الزمن الذي يحبّونه. خصوصاً أنه ترك ألحاناً لا تنسى، ولعل من الشهير منها "على الله تعود" لوديع الصافي، وهو اللحن الذي جمع ما بين الشجن المصري الرقيق، وحزنِه الذي يلتصق به كما التصق به لقب ملك العود ولم يتركه حتى هذه الساعة. وقد قال الأطرش نفسه إنه لحّنها طبقاً "للخصائص الوديعية" أي طبيعة صوت وديع الصافي.
مرّت ذكرى وفاته منذ 48 ساعة. وكانت أخبار موت وقتل السوريين في حرب نظامهم عليهم، تتفوق على أي خبر آخر. فنسينا، ونسي بعضنا، ولم ننتبه. إلا أن ملك العود الذي غنى "فارحم عسى الرحمن أن يرحمك" لن يقف عند ذلك، بل سيقول، وثمة من سيردّد معه: "عِشْ أنتَ..".